في اصبوحة ثقافية القى الباحث فالح عبدالجبار محاضرة تحت عنوان "بناء او تفكك العراق في اطار نظريات سوسيولوجيا القوميات والامم" في مقر الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق. جاءت المحاضرة في اطار اهتمام الاتحاد مؤخرا، بالقضايا الفكرية والثقافية التي تتصل بالراهن الوطني والدولي، وقراءة التحولات الشاملة التي حصلت في حياة شعوب المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص، ثقافيا وسياسيا، واجتماعيا، كنتيجة لذلك. اذ انشغل اكثر من باحث ومفكر في قراءة تلك التحولات متقصين جذورها او المحركات الخفية التي هيأت الظروف لها، وكيفية التعامل معها، لاسيما بعد ان برزت نزعات متطرفة، اخطرها التنظيمات الاصولية التكفيرية، وكذلك انتعاش النزعات العرقية، الانفصالية، لدى بعض الجماعات والاقليات، الامر الذي اربك اطمئنان الدول ودخولها مرحلة جديدة تنذر بتفككها. الباحث عبدالجبار الذي غادر العراق في العام 1978 وهو محمل برؤى يسارية، تجاوز ثوابته العقائدية الثورية، وبات ليبراليا في نزعته وطروحاته منذ مدة غير قصيرة، وصار يدير مركزا للبحوث والدراسات الاجتماعية، ينشغل بمعالجة قضايا راهنة انطلاقا من هذه النزعة.
لا شك ان قراءة واقع العراق اليوم، يجب ان تكون في سياق قراءة المتغيرات الجيوسياسية الكبرى التي وقعت في العالم والمنطقة، منذ نحو ثلاثة عقود، والتي القت بظلالها الكثيفة على العراق، وبقية دول الاقليم، بدءا من الثورة الايرانية في العام 1979 وبايديولوجيتها الدينية التي وجدت صداها في العراق بشكل او باخر، ومن ثم انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، الذي اصاب الكثيرين بالاحباط، وان لم يكونوا يشاركوه ايديولوجيته، الامر الذي مهد الطريق امام ثقافة سياسية جديدة، بدأت تكرّس نفسها في الواقع العراقي تحت ضغوطات نفسية هائلة افرزتها الحروب والحصار، فكانت اما دينية، ناتجة عن محاولة للخلاص بعد الاسئلة الوجودية التي افرزتها سنين الخراب الشامل الذي عم البلاد، واما نكوصية تتغنى بطريقة عاطفية بامجاد العهد الملكي وليبراليته (!) وهو ما يمثل نوعا من العزاء للنفوس المأزومة وسط عالم قاس امسك بخناق شعب وجد نفسه اعزل وسط الغابة الاميركية، بعد العام 1991.
شيء اخر مهم ايضا، هو انهيار العلمانية الاتاتوركية القسرية في تركيا، واقامة علمانية "اسلامية" بدعم اميركي لخلق توازن استراتيجي اقليمي، بعد انتهاء الثورة الايرانية الى دولة اسلامية ثورية، معادية لاميركا واسرائيل، ناهيك عن المشكلة الكردية التي ظلت هاجسا عراقيا الى اليوم، لانها استخدمت كقناع، لاسيما بعد انهيار الملكية واقامة الجمهورية نهاية خمسينيات القرن الماضي، وفشل كل محاولات الانظمة المختلفة في حلها، لانها دخلت كيمياء اللعبة السياسية الدولية في المنطقة وباتت اهم اوراقها. كل هذا المشتبك السياسي والثقافي القى بحمولته على الواقع الاجتماعي الذي ناء به لاكثر من ثلاثة عقود من الحروب والحصار غير المبرر، لينتج واقعا اجتماعيا مربكا، تجلى بعد العام 2003 معززا برؤية اميركية استحضرت مرجعيات هذا الواقع، كمادة سياسية لاقامة نظام سياسي "ديمقراطي"، فوجد العراقيون انفسهم في مآزق متداخلة افضت الى كل الخراب الذي نعيشه. وان قراءة اجتماعية تتجاوز كل هذا وتكتفي بمراجعة عامة لتاريخ العراق السياسي، ومواقف او متبنيات سياسية او ثقافية عفا عليها الزمن، يشترك بها الجميع في العالم او تأثر بها، ستكون بالضرورة غير منتجة.
يرى المفكر العربي الطيب تيزيني، ان العولمة بقدر ما سعت الى ازالة الحواجز بين الشعوب وحولت العالم الى قرية صغيرة، فانها ايضا ايقظت النزعات العرقية لدى بعض الجماعات او الاثنيات، وباتت تهدد وحدة الدول. وانقل هنا بالمعنى وليس بالنص. أي ان العولمة، التي تسعى اميركا الى فرضها على العالم، كرؤية سياسية واقتصادية وثقافية، تخفي في احشائها مشروعا خفيا، بداته منذ تسعينيات القرن الماضي، ولعل ما سمي بالشرق الاوسط الجديد، احد ابرز تجلياته، وقد بات قاب قوسين او ادنى من التطبيق عند اندلاع ما عرف بالربيع العربي. ما يعني ان ايقاظ الكامن العرقي والاثني الذي استوعبته دول المنطقة، مدنيا، بخرائطها المرسومة من الخارج قبل قرن، يراد منه بعد التهاب المنطقة في السنين الاخيرة، اعادة رسم تلك الخرائط بما يناسب تطلعات اميركا في الشرق الاوسط، وان شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان، لم تكن سوى غطاء لهذا المشروع، الذي بركت في رماله الدول المستهدفة.
الباحث فالح عبدالجبار، اغرق في محاضرته المرتجلة، في تقصي اسباب تعثر قيام الديمقراطية في منطقتنا وفي العراق تحديدا، وقد اسهب في الحديث عن الامراض البنيوية، التي حكمت واقعنا السياسي منذ قرن، ومنها النزعات القومية والعرقية، التي كانت بمثابة مرجعيات ثقافية للقوى والاحزاب التي حكمت العراق، وتسببت في ايصال البلاد الى ما وصلت اليه، حتى انه شبّه بعضها بالنازية (!) كونها، وفقا لرؤيته تاثرت بالتجربة الالمانية واستلهمتها، متجاهلا الظروف الدولية والمناخ الثقافي السائد في تلك المراحل، واليات تشكل الوعي الجمعي للشعوب بشكل عام، وقتذاك. ومن ثم اعتماد الدين والطائفة مرجعا سياسيا، بعد العام 2003 الامر الذي بات عائقا امام اقامة نظام ديمقراطي في العراق. واذا كان في طيات كلام عبدالجبار مايمكن الاتفاق معه او عليه، ولو نسبيا، لكنه في الاجمال يبقى محط جدل، لانه يغيّب او يغفل حقيقة المشروع الاميركي في العراق، والذي ياتي في سياق المشروع الاكبر للمنطقة، الذي انطلق في فراغ جيوسياسي دولي، ودفع بتلك الاثنيات والاعراق الى الواجهة وبحمولة سياسية تعكس ثقافتها اكثر مما تعكس مشروعا ديمقراطيا او تنويريا، يساريا كان او يمينيا، وبذلك بركت الدول في وحل هذا الصراع الذي دمر اطمئنانها المدني وهدد وحدتها الوطنية، وهو ما كان ينبغي التأكيد عليه في سياق الحديث عن البعد الثقافي، لاسيما ان الثقافي هنا يتم الحديث عنه بوصفه مرجعا للسياسي، او بات كذلك، ونقده في سياق قراءة شاملة.
وعليه ننتهي الى السؤال الذي يطرح نفسه، وهو، هل مشكلتنا ثقافية فقط، كما يرى اكثر من باحث؟ اعتقد ان الامر ابعد من ذلك بكثير.
اضف تعليق