ما الذي سيقوله الجيل الجديد من اليمنيين لنا، نحن أشقاؤهم في الخلق والخلقة واللسان؟... لماذا صمتنا حين كان يتعين علينا أن نصرخ بملء أفواههنا دعماً لحقهم البسيط والأولي في الحياة؟... ما الذي عقد ألستنا وجعلنا نشيج بأبصارنا عن صور أبنائهم وبناتهم، وهو يصارعون الموت جوعاً ومرضاً وعطشاً، دع عنك القصف الجوي والبري والبحري بأحدث القنابل والصواريخ؟... كيف ماتت "عروبتنا" وتبخرت "إنسانيتنا" ونحن ندير ظهورنا ونصم آذاننا عن أنّين جرحاهم وصراخ أبنائهم المكتوم ونظرات الإدانة والرجاء في عيون نسائهم؟
كيف سيشعر الجيل القادم من اليمنيين، حيالنا نحن الذي خذلناهم، ولم نكلف أنفسنا عناء الاعتذار منهم ولهم؟... أية مشاعر سيحملون لنا، وهم الذين ما انفكوا يخرجون عن بكرة أبيهم، نصرة للقضايا العربية، كل القضايا العربية؟... بأي وجه سنقابلهم، وبأي لسان سنخاطبهم، وهل نحتمل تلاقي أعيننا بأعينهم ذات يوم نريده أن يكون قريباً، ويريده غيرنا أن يكون بعيدا؟... يا الله، كم سيختزن هذا الشعب من ضغائن وأحقاد على الذين أعادوه إلى عصر ما قبل الحضارة الإنسانية، وعلى الذين تآمروا وتواطؤوا وصمتوا وأشاح بأبصارهم وأسماعم عن "كارثتهم الإنسانية" غير المسبوقة إنسانياً.
ما الذي نجنيه حين ننتصر على الحوثيين ونخسر اليمن؟... ما الذي تبقى من اليمن أصلاً، لكي يكون مصدر تهديد أو عنصر قوة في خاصرة هذه الدولة أو تلك؟... وما قيمة انتصار هو أقرب للهزيمة بكل المقاييس، إذ يبنى فوق ركام الخرائب وأكداس الجثث والأشلاء؟... ما الذي تبقى من اليمن لنقتتل فيه وعليه ونقتتل من أجله؟
ما معنى "المقاومة" في بلد فقدت فيه أجساد أبنائه وبناته "مناعتها المكتسبة"، وباتت فرائس سهلة للأمراض من الطاعون إلى الكوليرا إلى "الخناق"... وما معنى "الشرعية"، إن كانت استعادتها تستلزم كل هذه الأكلاف... كيف سيقاوم المرضى والجياع والمعذبون في أرض اليمن.... وأية "شرعية" تلك التي ينتفخ بها أصحابها، مثلما تنتفخ جثث القتلى وتتورم أعضاء الجرحى لنقص في الغذاء والدواء، ومصاعب في دفن الموتى وانتشالهم من تحت الركام والأنقاض؟
وما فائدة المساعدات الإنسانية، إن كان يموت في اليمن كل يوم 130 طفلاً وطفلة، وسيفقد خمسون ألفاً منهم حيواتهم قبل عيد رأس السنة القادم... ما قيمة المساعدات الإنسانية، إن كان حديثنا المتزايد عنها، لم يمنع بلوغ عدد المصابين بالكوليرا وحدها عن المليون مواطن يمني... ما معنى "رفع الحصار" إن كان سبعة أو ثمانية ملايين يمني مهددين بفقدان المياه الصالحة للشرب... ما حجم المساعدات الإنسانية المطلوبة، إن كان في اليمن ما يقرب من عشرين مليون مواطن بحاجة ماسة للمساعدة، وإلا واجه خطر المجاعة... أي رياء هذا، وأي نفاق؟
يا خزينا، ونحن نأوي إلى فراشنا ونتناول طعامنا ونمارس يومياتنا المعتادة، فيما ملايين الأشقاء في اليمن، لا يجدون ما يدرأ الموت البطيء عن أطفالهم، ومن منهم لم يمت بالسيف، مات بالجوع والعطش والمرض... يا عارنا، ونحن نشهد على ولادة جيل بأكمله، مهدد بالإعاقة المزمنة، لنقص في اللقاح والطعام والغذاء والماء الصالح للشرب... يا "خجلتنا" من رفاق وأصدقاء وأحباء، لطالما عرفناهم وعرفونا، وها نحن نقف عاجزين عن مد يد العون لهم في محنتهم... يا لقلة حيلتنا وبؤسنا ويأسنا، ونحن نقف مشدوهين بلا حراك.
إن كانت اعوام ثلاثة من حرب منسية، لم تكف لحسم الموقف، فما الذي ينتظره هؤلاء للجنوح إلى السلام والمفاوضات والطرائق الديبلوماسية... إن كان كل هذا الخراب والقتل والتدمير، لم يكف لإقناع أصحاب الرؤوس الحامية بالنزول عن الشجرة، فمتى سيقتنعون، ومن الذي، وما الذي سيقنعهم بالحاجة إلى إخراس المدافع... إن كان ولا بد من حل سياسي، فكل يوم يمر، تزهق فيه أرواح بريئة وكثيرة، ومن الأفضل أن نذهب اليوم إلى موائد الحوار، وليس غداً.
هي حرب منسية، وفائضة عن الحاجة، ولم تكن ضرورية يوماً... هي حرب وقودها ناس اليمن وحجارته وعمرانه وأخضره ويابسه... هي حرب الأقوياء، تنشب أنيابها الفولاذية الحادة، حتى تأتي على اليمني الأخير... هي حربٌ أقرب إلى الإبادة الجماعية، بعد أن بات الناس، كل الناس، هدفها وضحاياها... هي حرُب ستدخل التاريخ من أقذر أبوابه، بوصفها شاهد على نقص حاد في منسوب العروبة و"الدين" والإنسانية عندنا.
أوقفوا هذه الحرب المجنونة القذرة، وكفى اليمنيون ما هم فيه وعليه من بؤس وجوع وعطش ومرض... أعيدوا لليمن بعضاً من الأمل والرجاء، ولا تلوموا اليمنيين إن هم تحولوا إلى قنابل موقوتة تمشي على قدمين، ولا تتساءلوا عن طاقة الغضب التي ستتفجر من عمق جزيرة العرب، ومن دون أن ندري أين ستصل شظاياها، ومن ستصيب.
اضف تعليق