تتطاير السيناريوهات الأكثر سوءاً في سماء لبنان والمنطقة برمتها، ويتبارى "محللون وخبراء استراتيجيون" في التكهن بمساحة الحرب المقبلة وساحاتها والأطراف المنخرطة فيها والنتائج المترتبة عليها، بعضهم يتحدث عن سيناريو "اجتياح متزامن لكل من لبنان وقطر"، بعضهم الآخر قال أن الحرب ستشمل إيران ولبنان، مروراً بسوريا والعراق، وأن المنتصر فيها سيملي إرادته بالكامل على الأطراف الأخرى، فيما مصير المهزوم، الزوال والتقسيم و"التقاسم"... حرب تتخطى حروب "الوكالة" إلى حروب "الأصالة"، وتنخرط فيها دول الإقليم مباشرة، من إيران وحتى إسرائيل، مروراً بالسعودية وربما تركيا والولايات المتحدة وروسيا.
ولا شك أننا أمام قدرٍ عالٍ من "الفانتازيا"، والتحليلات التي تليق بجمهور "الفيسبوك" الراغب في الإثارة والتشويق، لا أكثر ولا أقل، وإن كنت ظننت أنني سأجد مطار بيروت يصفر للريح، وأن شوارع المدينة خاوية على عروشها، فقد ذهلت بحجم الحركة في المطار والشوارع، ودرجة الاكتظاظ في المقاهي والمطاعم... القلق يساور اللبنانيون، نعم... لكنه لا ينجح في تبديل أو تغيير رزناماتهم اليومية.
المؤكد أن درجة التوتر والتصعيد، بالذات بين إيران والسعودية غير مسبوقة على الإطلاق، ولا شك أنها تتغذى بأشد الحملات العدائية ضد إيران تنطلق على نحو منسق ومتزامن، وغير مسبوق أيضاً، من واشنطن وتل أبيب... ونعرف جميعاً حكاية "الحلف الإقليمي الجديد" التي قيل بشأنها الكثير في واشنطن والرياض زمن القمة الأمريكية – الإسرائيلية، فيما تصريحات نتنياهو عن تطور غير مسبوق في علاقات إسرائيل المضمرة والمعلنة مع دول عربية، ما زالت تصم الآذان وتزكم الأنوف.
والحملة على لبنان بشكل خاص، انطلاقاً من مواقف شديدة العداء لحزب الله، غير مسبوقة أبداً... ولغة التهديد والوعيد ضد هذا البلد الصغير، لا تليق به، ومن باب أولى، لا تليق بأصحابها... واستدعاء الجاليات وقرارات حظر السفر تثير قلقاً من نوع معين، حتى أن المرء يظن للوهلة الأولى، أن الحرب باتت مسألة ساعات لا أيام، وهذا غير صحيح، ويندرج في باب التطيّر.
كيف يمكن "تأديب" لبنان وتأليبه على حزب الله؟... استقالة الحريري أو إقالته، أحدثت مفاعيل عكسية تماماً... البيئة السنيّة، لم تنشغل في تعداد "المصائب" التي تسبب بها حزب الله لبنان كما كان يؤمل، وكما ورد في رسالة الاستقالة المعدة سلفاً التي ألقاها سعد الحريري مرتبكاً وممتقعاً... البيئة السنية انشغلت بمسألة واحدة فقط: عودة الحريري إلى لبنان، باعتبارها مسألة كرامة وسيادة قبل أن تكون أي شيء آخر، واللبنانيون على اختلاف مشاربهم وولاءاتهم الموزعة على عواصم الإقليم، يتقاسمون اليوم، كما لم يحدث من قبل، مشاعر التضامن والتعاطف مع رئيس حكومتهم.
ولولا أصوات "نشاز" قليلة، لقلنا أن استقالة الحريري طائعاً ام مرغماً، وحدت اللبنانيين بدل أن تقسمهم، وباتت كثرتهم الساحقة، تطالب بحفظ الأمن والاستقرار، وعدم الانزلاق إلى الفتنة، وعبارات من نوع "قطع الطريق" و"تفويت الفرصة" وغيرهما من تعابير ومصطلحات تذهب في اتجاه معاكس لمرامي الاستقالة/الإقالة، باتت الأكثر شيوعاً على ألسنة السياسيين والمارة في الشوراع ورواد المقاهي.
كيف يمكن استئصال حزب الله، ومن الذي سيقوم بهذه المهمة، وهل هي مهمة ممكنة في المقام الأول والأخير؟
ليس في لبنان قوة منفردة أو حتى قوى مجتمعة قادرة على القيام بهذا الدور من منظور توازن القوى وموازينها، ولم يعد اللعب بورقة "السلفية الجهادية"، من نصرة وداعش وما شاكلهما وارتبط بهما وسار على هديهما من حركات ومسميات، أمراً يسيراً في ظل انحسار البيئة الحاضنة لهذه التنظيمات من جهة، وبالنظر لحساسية دعم جماعات إرهابية من جهة أخرى، مع أن واشنطن والغرب، لم يُسلّما بعد، ونهائياً، بعدم جواز "توظيف" هذه الجماعات لأغراض سياسية، وإن بطرق غير مباشرة.
ولن يكون هناك "تحالف عربي" ضد لبنان أو حزب الله، على طريقة التحالف العربي ضد اليمن والحوثيين... مصر قالت موقفها المزلزل في هذا المجال، والأردن الذي لم يتحمس لحرب اليمن من قبل، لن يتحمس للحرب على لبنان من بعد، والاتحاد الأروبي "غرّد" في الاتجاه المعاكس لحملات التجييش على لبنان والعبث بأمنه واستقراره، وروسيا فعلت الشيء ذاته... وحدها واشنطن ما زالت تقبع في المنطقة الرمادية، فهي لا تريد للبنان أن ينفجر ولا تريد لحزب الله أن يبقى، وهي حائرة بين الأولويتين.
ثم، من قال ان تحالفاً عربيا عجز عن إنجاز نصر حاسم على الحوثي وصالح بعد ثلاث سنوات من حرب لم تبق ولم تذر، سيكون بمقدوره أن يكسب حرباً على لبنان وحزب الله، مع كل ما لدى الحزب من ميزات تفضيلية على الحوثي من حيث الخبرة والتسليح والتدريب و"خطوط الإمداد" وغيرها.... من قال أن مغامرة كهذه سيكتب لها النجاح، ولن تنقلب على أصحابها وحلفائهم وأصدقائهم.
تبقى إسرائيل، التي تتحرق شوقاً لإبادة حزب الله وتدمير طهران، وهذه قصة عمرها ربع قرن على الأقل، وهي جربت قبل النووي وبعده، دفع واشنطن للقيام بهذه المهمة نيابة عنها، وفشلت... وهي جربت استئصال حزب الله وخاضت ضد سلسلة من المعارك والحروب والاغتيالات والعمليات، خرج بها جميعها، أكثر قوة وعدة وعدداً... ثم، من قال أن "جيش الدفاع الإسرائيلي" سيقبل أن يضبط عملياته وتوقيتاتها، بناء على أجندات عربية أو خليجية، من قال أنه سيقبل القيام بدور "الحرس الوطني" لهذه الدولة أو تلك... إسرائيل معنية بشن حرب ذات يوم على لبنان، لإبعاد تهديد حزب الله، وهي دعمت النصرة على جبهة القنيطرة والجولان المحتل، استناداً لنظرية تقول أنها أقل سوءا من حزب الله، لكن إسرائيل ستفعل ذلك، حين تقرر فعل ذلك، وفقاً للتوقيت المحلي لمدينة القدس، وليس لأي عاصمة أخرى، وخدمة لأجندة إسرائيلية، وليس لأية أجندة أخرى.
تصعيد، نعم.... استقطاب وتوتير، نعم... تحشيد وتعبئة وعقوبات وحصار، نعم.... سحب الغطاء الإقليمي والمحلي عن حزب الله، نعم... رغبة في قصقصة أجنحة طهران وأذرعها، نعم... حروب بالوكالة تصعد وتهبط، نعم... حرب شاملة ومباشرة، لا أحد يريدها، لا ضد لبنان أو إيران، ولا ضد قطر التي فرغت للتو من إبرام أحدث صفقة سلاح مع واشنطن، فلماذا كل هذا التطيّر، ولماذا كل هذه "الفانتازيا"؟
اضف تعليق