قبيل الاستفتاء الذي اصر على اجرائه مسعود بارزاني في 25 من ايلول الماضي، كمقدمة لانفصال اقليم كردستان عن العراق، سافر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى موسكو، والتقى الرئيس الروسي بوتين. الزيارة يمكن وصفها بالتاريخية، لما اسفرت عنه من مفاجأة صدمت الكثيرين. فالبلدان اللذان شابت سماء علاقتهما غيوم سوداء، على خلفية اسقاط الطائرة الحربية الروسية قرب الحدود التركية اواخر العام 2015، تجاوزا الازمة تلك بلقاء سابق بين الرئيسين، ودشنا علاقة جديدة من التعاون بينهما في الملف السوري.
المفاجأة، تمثلت بصفقة بيع صواريخ (اس 400) الإستراتيجية الروسية لتركيا، والتي اذهلت حلفاء تركيا، الاميركان، وتردد صداها بقوة في اوساط حلف الناتو، الذي تعد تركيا احد ابرز اقطابه، ممن يعتمدون جميعا في تسليحهم المتطور على ما تنتجه المصانع الاميركية والغربية، والتي باتت المصدر الرئيس للسلاح التركي، منذ العام 1952 وهو تاريخ انضمام انقرة للناتو.
بالتزامن مع زيارة اردوغان لموسكو، تقريبا، كان العراق بقواته المشتركة، يطوي اخر صفحات داعش، بشروعه في تحرير الحويجة، ويدخل رقما صعبا في المنطقة، ويجبر الجميع على التعامل معه باستحقاقه الجديد، بعد ان قدر الاميركان زمن القضاء على داعش بثلاثين عاما! وبذلك اربك حسابات الكثيرين، داخليا عراقيا، ممثلين بالبارزاني ومن يشاركه اجندته الانفصالية، ودوليا ايضا، ممن استثمروا ورقة داعش وارادوها جسرا لتمرير مخطط التقسيم، الذي اعدّ له قبل سنوات، او قبل بدء حفلة داعش الدموية على جسد العراق الذي تقطع حينها فعلا.
لقد كان الاتراك يقرأون الاحداث التي تجري في شمالي العراق، بعين استراتيجية، ويراقبون بدقة تطورات العلاقة بين قيادة الاقليم الكردي، لاسيما البارزاني، باسرائيل، بدفع ودعم خفي من اميركا، التي رسمت خارطة مستقبلية لقواعدها هناك، بعد اعلان الدولة الكردية، التي بدأت خطواتها العملية بالاستفتاء، على الرغم من معارضتها العلنية له، والتي قرأتها انقرة على انها للاستهلاك السياسي والاعلامي، ولذر الرماد في العيون لا اكثر، وصولا الى تحقيق الهدف الذي بات الوصول اليه على بعد خطوة واحدة من الاستفتاء، الذي كانت واشنطن تعارض توقيته فقط وتؤيده من حيث المبدأ! وتراقب ردة الفعل الاقليمي والدولي عليه، لتتخذ خطواتها اللاحقة وفقا لما تفرزه تطورات المواقف.
انشغل العالم بالصفقة الروسية التركية، والتي وصلت رسالتها الى دول الغرب المؤثرة، لكنها بالنسبة لاميركا، مثّلت تحولا استراتيجيا في علاقة تركيا، ليس باميركا فقط، بل والناتو بشكل عام، وايقنت ان استتباعات هذه الخطوة غير المسبوقة ستكون كارثية على دورها في الشرق الاوسط، اذا ما اصبحت انقرة حليفا لموسكو، على حسابها، وانعكاس ذلك على موازين القوى والخارطة الجيوسياسية للعالم. فتركيا التي عبرت اكثر من مرة عن ارتيابها من علاقة اميركا المميزة بالكرد في العراق وسوريا، ترى ان اقامة الدولة الكردية، يعني ان اسرائيل باتت على حدودها الجنوبية، وان دورها الجيوسياسي المهم قد انتهى لصالح واقع جديد، سيكون امنها القومي الضحية الاولى له، وان تفككها سيكون مسالة وقت.
ادركت واشنطن وعورة الطريق الذي تسلكه. فالدول الاوروبية في معظمها، تعارض اقامة دولة كردية، سواء في شمالي العراق او غيره، وما تستدعيه هذه الخطوة من مشاكل جديدة في الشرق الاوسط، وان هذا المحاولة تمثل هروبا اميركيا الى الامام، بدلا من حل مشاكل المنطقة، ومحاولة غير واقعية لاعادة تشكيل توازن القوى بما يضمن، تفوقا اسرائيليا وحضورا اميركيا اقوى على حساب روسيا ومحاصرة ايران وتحجيم العراق، او قوى معينة فيه، واعادة رسم خارطة المنطقة من جديد خلافا لرغبة دولها المؤثرة.
الصفقة الروسية التركية، تعني بشكل ضمني، خروج تركيا من الناتو، لان وجودها فيه، والذي يعززه موقعها الجيوسياسي، في الشرق الاوسط، لم يعد له معنى، بعد ان وضعتها اميركا امام استحقاقات قاسية. ويعني ايضا، ان المحور المقابل او المنافس، الذي بات بعد كارثة "الربيع العربي" بمثابة حلف وارسو جديد، انتجته الضرورة، وإن بتسمية اخرى، سيكسب دولة مؤثرة، ستقلب المعادلة وتنهي دور حلف الناتو في المنطقة، اذا ما اضطرت الاتراك مصالحهم للتعاون مع ايران في رسم صورة لمستقبل سوريا والمنطقة بشكل عام، بمساعدة الروس، بعيدا عن رؤية الاميركان ومن يقف معهم، ما يعني ان الدولة الكردية القادمة، ستكون ميدانا لنزاع عسكري بين اسرائيل المدعومة اميركيا، وبقناع كردي، ضد تركيا، التي عليها ان تدخل المواجهة وتستعد لها بأسلحة استراتيجية، توازي التسليح الاسرائيلي وتتفوق عليه ايضا. من هنا علينا ان نقرا تراجع اميركا عن مشروع الدولة الكردية وصمت اسرائيل التي ايقنت ان الذهاب مع البارزاني الى النهاية، يعني حربا خاسرة، وتداعيات غير مضمونة العواقب.
لقد انقذت ادارة ترامب حلف الناتو بتراجعها عن دعم مشروع الدولة الكردية، الذي بدأ العمل عليه في عهد سلفه اوباما، واوقفت اندفاعة اسرائيل لمغامرة كبرى، قد تنتهي بنهايتها، غير متناسين، ان ايران ترى في قيام الدولة الكردية، ما تراه تركيا تماما، وبالتأكيد ان اميركا لا تستطيع ان تقف بوجه كل هذا السيل المتمادي من الرفض العراقي والاقليمي والدولي، ولا تستطيع ايضا، ان تقف بوجه التعاون العسكري بين الروس والاتراك، لانه بالنسبة لهما مسالة دفاع عن وجود، وان بقاء حلف الناتو افضل من انتحاره في اربيل، فوق سراب الدولة الكردية!.
اضف تعليق