q

يوصونا علماء النفس دوماً بالخروج من قوقعة الذات لدى حصول أي مشكلة من نتاج داخلي او من العوامل الخارجية بغية التقدم لايجاد الحلول الناجعة لها، لذا نجدهم يحذرون من الانكفاء على الذات واستمراء الازمات والاحباطات لانه يعقد المشكلة فيما بين الانسان ونفسه، من جهة، وفيما بينه وبين المحيط الخارجي من جهة اخرى، فهم ينظرون للتنمية ولإثارة القوى الايجابية الكامنة في النفس، مثل الثقة والاعتداد، كما يدعون الى التحفيز والتشجيع لفتح ليكون الانسان المأزوم نفسه، من عوامل النجاح وليس الفشل في المجتمع والامة.

والامر ليس بهذه السهولة، فكلما عظم الخطب زاد الانكفاء والتوقع، كما لو ثمة شعور بثقل المشكلة الحاصلة، تعيق صاحبها من النظر –حتى- الى المحيط الاجتماعي مهما كان مقرباً وحميماً، مثل الأسرة والاصدقاء والاقرباء وهكذا.

وقد عنون الأئمة الهداة، عليهم السلام، هذه الحالة بـ "الجزع" والانغماس في المصيبة والازمة بشكل طوعي وربما لا إرادي – احياناً- ثم يتحول الامر الى ظاهرة اجتماعية تخلق المزيد من التعقيد والتوتر، فجاء النهي أولاً؛ ثم السبيل نحو الانفراج والتعامل مع الواقع بايجابية، ويتحقق هذا عندما يؤمن الانسان بوجود عالم أكبر منه، ومن مشكلته الشخصية، وأن العلاقة بينه وبين هذا العالم تكاملية وعلاقة عضوية لا فكاك منها، ولعل الحديث المروي في كتاب "غُرر الحكم"، بأن "ما كرمت على عبد نفسه، إلا هانت الدنيا في عينه"، والحديث الآخر في باب الجزع: "لا تجزعوا من قليلَ ما أكرهكم فيُوقعكم ذلك في كثيرٍ مما تكرهون".

وبهذه الرؤية الحضارية نكون في طريق التسامي على أزماتنا الداخلية (النفسية) وعدم تضخيمها وتهويلها ثم الخوض غمار الحلول والمعالجات للأزمات في المحيط الخارجي التي هي أهم وأكبر، بدليل ان مشكلة الانسان (الفرد) واحدة، مهما كانت الجراح والمعاناة، بينما الجراحات والمعاناة على صعيد المجتمع فهي تشكل ركام هائل ومريع مدعاة للإحباط والهزيمة النفسية لمجتمع وأمة بأكملها.

وقد برع في هذا المضمار القادة الناجحون والعلماء المصلحون، فبقدر استيعاب غصص التهميش والتسقيط والمحاربة من جهات مختلفة، وتحويلها الى خطوة الى الامام باتجاه الغصص التي يتجرعها الناس، بنفس القدر – وأكثر- تكون الاستجابة الجماهيرية المدوية للنهضة والتغيير مهما كلف الأمر، وهكذا انتصرت ثورات تحررية وانتشرت افكار بين الأمم، ولعل دافع الوفاء يدعونا لاستذكار سماحة الامام المجاهد السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه- ليكون أروع مصاديق التسامي على الجراح والطعون التي ذابت في نفس كبيرة طيلة حياته، وفضّل أن يردّ عن الامة طعون أشدّ وأخطر على عقيدتها وكرامتها ومستقبلها.

وهذا ما تفتقره معظم المجتمعات، ولعل منها المجتمع العراقي، فيكون قد زاد على نفسه سبباً آخر لتعاظم المشاكل والظواهر السلبية العامة، مثل الفساد الاداري والفوضى وانعدام المسؤولية مع غياب المعايير وعدم الاحتكام الى القيم والمبادئ – في كثير من الاحيان- ، وصار لسان الجميع: "كلٌ يغني على ليلاه..."، ثم راح البعض ينظّر لتكريس هذا الواقع بأن الأهم ان يفكر الانسان بنفسه وحاله قبل ان الآخرين، بدعوى أن يبدأ من نفسه.

نعم؛ هذا يصدق في المنظومة الثقافية من سلوك وافكار وأخلاق، ينبغي ان تتجسد صورة منها في نفس كل انسان يدعو الى الاصلاح والخير للآخرين، حتى لا تلحقه لعنة {لم تقولون ما لا تفعلون}، بينما الجراح التي تصيب الانسان، فهي ربما تكون من سنخ الجراحات والازمات التي يعيشها الآخرون، إلا ما ندر وجود مشكلة خاصة واستثنائية فذاك أمر آخر لا تعد ضمن الحالة العامة.

ولا يفوتني في الختام استذكر موقف ذو دلالة من العراق – او العراقيين بالآحرى- حصل قبل سقوط الطاغية صدام بسنوات، عندما اجتمعت احزاب وشخصيات معارضة في العاصمة فيينا عام 1992، فكتب احد المراسلين العرب عن أجواء المؤتمر بأنه عبارة عن "مزايدات بين الحضور على المظالم والمعاناة من نظام صدام بين الشيعة والاكراد..."!

بهذه الوسيلة الرخيصة وصل من وصل الى مناصب رفيعة وأرصدة مالية ضخمة وامتيازات لا تخطر على بال بشر! وهذا درسٌ نتعلمه بالحذر من مغبة الانكفاء على الذات بما تعاني، والترفّع عنها الى ما يعانيه الآخرون بغية الاسهام في تقديم الحلول والمعالجات ولو بشكل تدريجي يبعث على الأمل.

اضف تعليق