غادر الامام الحسين (ع)، مدينة جدّه رسول الله (ص)، في تاريخ السابع والعشرين من شهر رجب سنة 60 للهجرة، باتجاه مكة المكرمة، وبقي فيها حتى شهر ذي الحجة الحرام، وهي فترة طويلة لقافلة بصدد الرحيل والحركة صوب العراق، مع العلم بوجود شخص مثل عبد الله بن الزبير، متخندق في مكة؛ متحفز ومتوثب للمكاسب السياسية، فجاء الى الامام ذات مرة وعرض عليه البقاء وعدم الذهاب الى العراق، لتشكيل "تحالف" بهدف القضاء على الحكم الأموي، فجاء الرفض القاطع من الإمام الحسين، مستشهداً بحديث رسول الله، بأن "في الكعبة كبشٌ يقتل ينتهك حرمتها وأنا لا اريد ان أكون ذلك الكبش...".
الى جانب الوصية النبوية والنصّ الصريح، فان الرؤية الرسالية حاضرة فكر الإمام الحسين، ومعرفته بكوامن ابن الزبير، الذي حرّض أبيه على قتال أمير المؤمنين في حرب الجمل، هذه وغيرها تقدم تقييماً سياسياً متكاملاً لحلف يبغي صاحبه من ورائه مكاسب سياسية، بينما الامام الحسين يتطلع الى الهدف الأسمى الذي أورده في رسالته الى أخيه ابن الحنفية: "...إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي".
"يالثارات الحسين" والتوظيف السياسي
اذا اردنا توفيقاً في مقارعتنا للحكام الظلمة والانظمة الديكتاتورية وإقامة النظام العادل من خلال هذا النوع من العلاقات السياسية (التحالف) مع القوى السياسية الاخرى، علينا مراجعة التجارب التاريخية، فالشعارات التي نحملها اليوم، حملها قبلنا أناس آخرون امتازوا بقربهم من المعصومين، من ناحية مشروعية حراكهم السياسي، كما امتازوا ايضاً بالمصداقية بما وفر لهم القاعدة الجماهيرية الواسعة، بيد أن النتيجة لم تكن كما خطط لها اصحاب القضايا العادلة مثل المختار في العهد الأموي، وأبناء عبد الله بن الحسن المثنى بن الامام الحسن المجتبى (ابراهيم ومحمد ذو النفس الزكية).
ومع عدم شكّنا بحسن النوايا والغايات التي استشهد من أجلها الثائرون آنذاك، فان العبرة بالنتائج، فالمشكلة ليست في الخندق الرسالي – إن صحّ التعبير- إنما في الخندق المجاور الذي يوظف الجهود والتضحيات نحو اهداف بعيدة عن القيم والمبادئ، ولا أدلّ على شعار "يالثارات الحسين" الذي رفعه الرساليون أمثال؛ سليمان بن صرد الخزاعي وأصحابه التوابون، ومن بعده المختار ومن جاء من بعده من قادة الانتفاضات الشيعية، كما رفعه ايضاً ابو العباس السفاح والمنصور الدوانيقي عندما كانوا في مرحلة النضال السري ضد الحكم الأموي.
إن شعار "يالثارات الحسين" كان شعار الثورة ولم يكن شعار التغيير، وهنا تكمن منطقة فراغ خطيرة لابد من سدّها من قبل الشريحة الواعية لربط الجماهير الثائرة بأهدافها الحقيقية، وما يتبع ذلك من تقويم الوسائل، وترسيخ القيم والمبادئ في النفوس الثائرة استعداداً لمرحلة ما بعد الثورة والانقلاب على الحكم الظالم، ووجود هذا الفراغ الثقافي هو الذي تسبب في سقوط العديد من الشهداء في انتفاضات شيعية متلاحقة دون أن تصل الى اهدافها بالاطاحة بالحكام الظلمة من أمويين او عباسيين، ثم نهايات مأساوية لتلكم الانتفاضات.
وربما قرأ الزبيريون والعباسيون وغيرهم، مستوى عقول السواد الأعظم من الامة آنذاك، وعرفوا أنهم امتداد لأهل الكوفة المسكونين بالتمرّد على الحق والعدل منذ تجربة أمير المؤمنين معهم، ومن ثم الامام الحسن ومن بعده الامام الحسين، عليهم السلام. ولذا نجد دماء الثائرين تراق أنهاراً وتقطع الرؤوس وتصلب الاجساد، بينما الآخرون يتربعون على عرش السلطة والناس يتفرجون كيف أن رأس الامام الحسين يوضع في طشت أمام عبيد الله بن زياد، ثم يأتي اليوم الذي يكون فيه رأس الاخير في طشت بين يدي المختار، ثم يكون رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير.
الوصول الى الحكم وأوهام الحل
الثورات والانتفاضات الشيعية في القرون الاولى، وما اتبعها من تجارب ثورية في فترات زمنية لاحقة وحتى تاريخنا المعاصر، دفع ببعض المؤرخين والمفكرين بأن يوصموا الشيعة بعقدة الاضطهاد والظلم وأن مشكلتهم الاساس؛ سياسية ولا تحل سوى بوصولهم الى السلطة وتأسيس الدولة الشيعية، وهذه مغالطة تجانب حقيقة التشيع التي أرسى دعائمها وبين ملامحها؛ رسول الله، فبالامكان الاشارة الى الصحابي الجليل؛ أبو ذر الغفاري، كأول داعية للتشيع الحقيقي الذي كان ينظر على سلوك الحكام وليس على كراسيهم، ولا الى الامتيازات والمكاسب التي طالما حاولوا استدراجه بها دون جدوى.
ويبدو أن شيعة اليوم صَدقوا توقع أولئك المؤرخين ومن كتب عن التاريخ السياسي للشيعة، وأصروا على خيار الحكم والسلطة في العراق الجديد وترحيل خيار التغيير والتثقيف الى أجل غير مسمّى! عادّين القرار المشترك لكل من بريطانيا واميركا بإنهاء الحياة السياسية لنظام صدام، الفرصة التاريخية والذهبية التي لا تعوض للوصول الى الحكم في بغداد، هذه المدينة التي تختزل في الذاكرة الشيعية، تحديات وآهات طيلة قرون من الزمن، وبعد الوصول الى بغداد الخالية من صدام، التفكير سريعاً بالحصول على "حصة الأسد" في الحكم، وهذه المرة بالتحالف مع الكُرد المتموضعين سياسياً منذ عام 1991 في مدنهم الخاصة شمال العراق، ثم جرى الترويج بشكل غريب عن التحالف "الشيعي – الكردي" الممتد منذ أيام المعارضة وحتى تشكيل النظام السياسي الجديد، على أنه نموذج للعمل السياسي المتشرك والناجح، بدعوى القضايا المشتركة في العهد البائد والهمّ السياسي الجديد بإيجاد نظام ديمقراطي، فيدرالي، اتحادي في العراق.
والامر الغريب الآخر في هذا التحالف، أن أحداً لم يتحدث شيئاً عن حقيقة هذا التحالف ومصداقيته على ارض الواقع، سوى همس بسيط من النائب السابق؛ سامي العسكري – وللأمانة الصحفية- الذي تحدث عن عدم وجود شيء اسمه "تحالف شيعي – كردي" على الصعيد السياسي، إنما هو بعض المشتركات في العمل المعارض أيام العهد البائد ليس إلا، وهذا ما كشف عنه في الآونة الاخيرة الكُرد أنفسهم عندما نفوا اليوم، أن يكون هنالك تحالفاً بينهم وبين الشيعة، وذلك بعد اقترابهم من اللحظة التاريخية التي يقطفوا فيها ثمرة التآمر على العراق والعراقيين بإجراء الاستفتاء على استقلال اقليم كردستان عن العراق.
وسواءً جرى الاستفتاء وتحققت آمال الكُرد، أم لم يحصل ذلك، فان النتيجة واحدة، باستفادتهم الهائلة وما فوق التصور من النظام السياسي الجديد، اكثر مما حصل عليه الشيعة وهم في قمة السلطة، والمقصود بالشيعة؛ الاحزاب الشيعية التي ادعت تمثيلها للأكثرية الشيعية في العراق، والنتيجة؛ أن الجماهير الكردية المسيسة اساساً، ازدادت تسييساً وتثقيفاً وتمسكاً باهدافهم القومية وطموحاتهم المستقبلية، بغض النظر عن مدى واقعيتها، فيما بقيت الجماهير الشيعية بشكل خاص والعربية بشكل عام في العراق، تعيش منفصلة بمسافات بعيدة عن قياداتها السياسية التي وعدت بتحقيق الآمال الكبيرة والازدهار للشعب العراقي، وبدلاً من العمل على نشر مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة وسائر القيم التي طالما نظّروا لها وضحّى المجاهدون الأوائل من اجل تحقيقها، نراهم ينشرون – ومن حيث لا يشعرون- مفاهيم الاستبداد والانحراف ومظاهر الفساد والفوضى بشكل فضيع، وحصل ما ليس لم يكن بالحسبان، بأن يعتقد الناس أن أيام حكم صدام أفضل بكثير من الوضع الحاضر، كونه حافظ – على الاقل – على مظاهر الاستقرار السياسي والنظام العام، وهو ما عجزت عنه الحكومة (الشيعية) الجديدة.
وفي الختام؛ ما تحقق للساسة الشيعة في العراق في تجربتهم التاريخية هذه؛ خسارتهم للتحالف المنشود مع الكُرد طيلة عقود من الزمن، واتضاح الحقيقة المرّة، ثم خسارتهم للتحالف المأمول والمفترض مع جماهير الشعب العراقي الذي بنى آمالاً عريضة على مستقبل ما بعد صدام وما بعد الديكتاتورية والظلم والطغيان.
اضف تعليق