في ظل تصاعد أزمة حالة إستفتاء الكُرد في العراق كقوى وشخصيات قومية، قد تحمل الكثير من السيناريوهات إذا ما تم إقرار قيام الدولة الكُردية إنطلاقاً من شمال العراق، منها مستقبل التعايش بين القوميات الرئيسية، تأتي هذه الأزمة بعد أسابيع من تحرير قضاء تلعفر آخر معاقل تنظيم داعش الإرهابي في مدينة الموصل، تبرز إلى الواجهة من جديد مسألة التعايش السلمي بين المجموعات العراقية المختلفة ثقافياً وطائفياً وعرقياً في ظل التصعيد الإعلامي من هذا الطرف وذاك، بل هناك تخوفات وتحذيرات من تطور التظاهرات الأخيرة التي شهدتها مدن الموصل، وديالى، وكركوك إلى جانب الحدة بالخطابات الإعلامية والتهييج الشعبوي المتبادل إلى حدوث تصادمات دموية ما بين قوى كُردية من جهة وقوى تركمانية وعربية والجهات الساندة من جهة أخرى في أغلب المناطق قد تحدث قبل الإستفتاء أو بعده مباشرة.
بعد أن أستبشر العراقيين خيراً من زوال خطر التوتر الطائفي أو ما عرف بشبح الحرب الأهلية الطائفية الذي عم فوضاه البلد بعد سقوط النظام الإستبدادي من قبل قوى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكلف العراقيون الكثير من الدماء، والألم، والتهجير نتيجة ممارسات وسلوكيات يقوم بها هذا الطرف أو ذاك ضد أحدهما الآخر نتيجة ثقافة دينية وأحيانا سياسية، هيمنت على الوجدان الشعبي العراقي مع حافظة تاريخية لكل قادة المذاهب الفقهيين والسياسيين لسجلات من حالات الصراع والإضطهاد المتبادل عند اختلاف طوائفهم في فترات إنحطاط الوعي وتدني المستوى الأخلاقي، وتجيد القوى الإسلامية ـ المذهبية المعاصرة التي حكمت البلد بعد سقوط النظام الإستبدادي توظيف الإختلاف الطائفي وإظهار تداعياته لأسباب سياسية وترجمته فيما بعد في بنود وتشريعات دستورية وفي تشكيل الحكومات وتوزيع المناصب السيادية والإدارية أيضاً، وهذا تراث من توظيف التوتر الطائفي أستعمله أيضا في سالف العصور الماضية كل السلاطين والملوك حتى لقب بعضهم من قبل وعاظهم الدينيين والثقافيين زيفاً بحامي السُنة، وأمير المؤمنين، والحاكم بأمر الله، وحامي الشرع والحوزة..الخ.
وكان أكبر المستفيدين من هذا التوتر الطائفي بالفترة المعاصرة في العراق هو المجموعات الإرهابية كتنظيم القاعدة وأخواتها أمثال تنظيم داعش الإرهابي، حيث لعبت على ورقة القدسيات الدينية والتهميش المذهبي من أجل كسب تعاطف عامة الناس في مشروعهم التسلطي الإقصائي، وأكبر الخاسرين من تداعيات الخطر الطائفي في الوقت ذاته المشروع المجتمعي العراقي الحضاري ككل (الدولة العراقية – المواطناتية - المؤسساتية)، وإنطلاقاً من المأثور الفلسفي السُقراطي في معالجة النزاعات، إذا عرف موضوع كل نزاع بطل كل نزاع أدرك أغلب المتنازعين طائفياً – سياسياً، حجم الوهم الذي يتصارعون من أجله.
وإذا كان خطر النزاع السياسي المذهبي قد تراجع خطورته على التعايش المذهبي في العراق بعد كل الذي جرى، فإن الأحداث ما بعد زوال كيان داعش الإرهابي تنذر إلى خطر جديد يهدد التعايش السلمي بين أهل الجغرافية الواحدة وإذا ما تركنا جانباً التوصيفات الفقهية المتبادلة بين شعب القوميتين العربية والكُردية في المتون الفقهية والذاكرة التأريخية المأزومة فإن الحديث يدور ليس الآن فحسب وإنما من بدايات تمكين الكُرد خارج المحافظات الكُردية التقليدية في عراق ما بعد النظام الإستبدادي وإلى يوم تحديد موعد الإستفتاء بصراع السيطرة على الأرض.
وهنا تدخل مناطق ما بات يعرف بالمناطق المتنازع عليها أو المسيطر عليها من قبل الكُرد بحكم سياسة الأمر الواقع في قمة الصراع الجيو سياسي ففضلا عن كركوك محافظة موارد الطاقة والتعددية القومية والدينية فهي من أبرز المناطق المتنازع عليها في العراق، حيث شكلت مصدر تجاذبات وتصعيد بين الحكومة الإتحادية في بغداد وحكومة إقليم كُردستان العراق، إذا لم يتوانى في كل مناسبة أن يؤكد رئيس إقليم كُردستان العراق مسعود البارزاني أن سيطرة قوات البيشمركة على كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها مع الحكومة العراقية تعني أنه لم يعد هناك مجال للحديث عن المناطق المتنازع عليها.
وهناك المناطق الواقعة في الموصل حيث قضاء سنجار موطن الديانة الأيزيدية التي تعرض سكانها للإضطهاد والتهجير والسبي من قبل تنظيم داعش الإرهابي، والشيخان والحمدانية وناحية بعشيقة والقحطانية التي تضم مواطنين من الديانة المسيحية والشبك، والشيعة، والكرد، أما محافظة ديالى فيدور النزاع فيها حول قضاء خانقين ونواحيه، إضافة إلى قضاء بلدروز، وصولاً إلى مناطق فيها أفراد من أبناء القومية الكُردية في أقضية من مدينة واسط كقضاء بدره وناحية جصان، الأمر الذي يجدد العرب والتركمان في هذه الفترة تحذيرهم من مغبة إتخاذ أي إجراء كُردي بضم هذه المناطق إلى الكيان الكُردي الذي سينفصل عن العراق، مما ينذر بخطر صراع قومي في هذه المناطق على الأقل.
بالرغم من أن العملية السياسية أديرت بعد سقوط النظام الإستبدادي بطريقة توافقية (الحصص) في توزيع المناصب السياسية العليا المنصوص عليها في دستور العراق لعام 2005 بين المكونات القومية والدينية والحزبية إلا أن تفسير التطورات القومية الأخيرة تكشف مرة أخرى عن حجم هشاشة التحالفات السياسية وغياب المشروع الوطني العراقي في ما بين القوى الدينية والقومية التي حكمت العراق بعد عام 2003، بل نظر إلى العراق كدولة غنيمة ليس إلا، وهو ما يتطلب من الشرائح الوطنية إعادة نظر شاملة تتضمن التغيير في مفاصل العملية السياسية وتعديل في الدستور العراقي الدائم سواء مضى الكُرد في خيار الإنفصال أم فضلوا البقاء ضمن كيان الدولة العراقية، لضمان إستقرار هذه الدولة سياسياً وإقتصادياً وأمنياً ويجعلها بعيدة كلياً عن شبح النزاعات الأهلية والتدخل الإقليمي، وخطر التفتت الجغرافي والإنقسام السياسي، ودولة الغنائم، وتحقيق المصالح المكوناتية دينياً وقومياً مثلما يراهن الكُرد بالخيار البديل عن تأجيل الإستفتاء.
اضف تعليق