ايا تكن التكهنات بشأن حصول الاستفتاء من عدمه، لكن الراجح ان الاستفتاء مرحلة جديدة ينبغي الاستعداد لها بشكل جدي، لان ظروف مابعد الاستفتاء ستنتج خطابا سياسيا وشعبويا يضج بالتحريض والكراهية ويكرس القطيعة النفسية ويدفع باتجاه الانفصال الوجداني قبل الانفصال السياسي والقانوني والجغرافي.
لقد سعت اطراف كردستانية منذ عام ٢٠٠٥ الى بذر بذور الانفصال النفسي للشعب الكردي عن اخوانهم العراقيين الاخرين، وكانت المساعي تتركز باتجاه تسييج المناطق ذات الاكثرية الكردية او المختلطة، بسياج من الشكوك وعدم الثقة وتصوير كل فكرة او مفهوم سياسي او ثقافي او قانون تشريعي او موقف تنفيذي وقرار حكومي بانه لايحقق الشراكة ولاينصف الكرد ولايستجيب لحقوقهم، وظلت المناكفة السياسية والتصعيد الاعلامي تتجه بوتيرة محسوبة لتتراكم مشكلات كبيرة بدأت بالمادة ١٤٠، ولم تنته بالميزانية ورواتب البيشمركة والاشراف على المنافذ الحدودية وانتاج وبيع النفط والغاز.
ومع كل مشكلة وتصعيد للاتهامات من جانب الكرد او بعضهم، كان من الواضح ان الساسة الكرد يقطعون خطوات على طريق الانفصال النفسي والقطيعة ليقال بعدها ان لا أمل باستمرار الشراكة في عراق اتحادي، وان بغداد لم تلتزم بالدستور وانها تتصرف مركزيا وعليها ان تتحمل مسؤولية المشكلات وحدها، اي ان مايقال اليوم من مبررات لتسويغ الانفصال ليست وليدة مشكلات حصلت وحان وقت حصاد نتائجها بل ان المشروع القومي الكردي كان يراكم خبرات ويستوحي تجارب عالمية ويستنسخ خطوات نحو تأسيس الدولة والوصول الى المرحلة الكونفدرالية ومن ثم الاستقلال والانفصال بدولة جديدة كاملة السيادة.
كان النموذج اليوغسلافي بعد مرحلة الزعيم جوزيف بروز تيتو، يداعب الخيال الكردي، فيوغسلافيا الاتحادية المتعددة الاعراق والقوميات كانت تتجه نحو الانقسام منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي وكان دافع القوميين هو الخلاص من هيمنة المركز الصربي ذي النزعة القومية المدعومة من الكنيسة الارثوذوكسية بعد مراكمة سلسلة من الممارسات اتخذت ذريعة للذهاب نحو الاستقلال، وقد كان الساسة الكرد من الذكاء بحيث انهم كانوا يربطون بقاء اقليم كردستان ضمن العراق الاتحادي بمقولة نجاح التحالف الكردي الشيعي ببناء دولة شراكة مدنية والقرار الاختياري للكرد، ومتى ماوجد الكرد ان الطرف الاخر لم يحقق لهم مايصبون اليه، فان الية الذهاب الى الاستفتاء واللعب على المشاعر القومية والتذكير اليومي بالمأساة الكردية ستكون حجر الزاوية باتجاه الدفع نحو الانفصال.
وهكذا عندما قطعت خطوات تكوين الدولة الجديدة المسار الاهم اقتصاديا ودبلوماسيا وامنيا واداريا، لم يبق سوى دفع الامور نحو النهايات التي لارجعة عنها، والاستفتاء هو نهاية العراق الاتحادي وبداية ولادة الدولة الجديدة، لكن للاستفتاء تداعيات خطيرة ينبغي حسابها جيدا، فالكرد بعد الاستفتاء سيعتبرون انفسهم قد قرروا مصيرهم بحسب مبدأ تقرير المصير (المقدس) لديهم وبالتالي فهم جار يبحث عن امنه القومي ويريد الدفاع عن مصالحه في الجغرافيا والاقتصاد والمياه ويسعى لتكريس مزيد من القطيعة النفسية ولذلك ستبدأ صراعات جديدة تتمثل بحملات شعبوية قومية تشتم الاخر ورموزه ومقدساته، وبخطاب اعلامي وسياسي مهاجم، وبمطالبات مالية وفرض الامر الواقع في المناطق المختلطة (المتنازع عليها) واتخاذ نقاط امنية وعسكرية في اخر منطقة كان يسكن فيها فلاح كردي في ديالى وكركوك واطراف الموصل، فيما ستتقطع خطوط التجارة والاستيراد مع تركيا بشكل مؤقت.
لقد اختار الحزب الديمقراطي التوقيت الذكي للاستفتاء ليكون رد فعل بغداد في اضعف حالاته بسبب جملة التعقيدات السياسية الراهنة، وليحقق بعض القادة الكرد حقيقة مقاربتهم للازمة العراقية عندما رفعوا شعار عراق مابعد داعش ليس كعراق ماقبله.
اضف تعليق