الفكر الاستعماري يتجه الى عدم وجود مؤهلات وقدرات للشعوب المستعمرة لأن تدير شؤونها بنفسها، لذا فهي بحاجة – بالضرورة- الى من يقوم بذلك نيابة عنها، و ربما ولدت هذه الفكرة لدى الاوربيين، منذ فجر الاستعمار وانطلاق السفن البرتغالية والاسبانية نحو البلاد البعيدة في العالم، بهدف الاستكشاف ثم الاستعمار والاستغلال، علماً أن مفردة "الاستعمار" لا تتوافق مع المفهوم الدارج بأنه يدل على الاستغلال ونهب موارد الشعوب بعد خداعها وتضليلها، إنما هي من الناحية اللغوية تدل على معنى ايجابي ينصرف الى "الاعمار"، وبهذا المفهوم كان يبرر المستعمرون وجودهم في القارة الافريقية والامريكيتين وشبه القارة الهندية والشرق الاوسط وغيرها من بلاد العالم، ولتمهيد الارضية لنهب الثروات والخيرات ثم إقامة منشآت ومؤسسات وكيانات تمثل مصالحها الاقتصادية والسياسية على المدى البعيد.
وكان في مقدمة هذه القوى الاستعمارية؛ بريطانيا بافكارها الاستعمارية التي أخذتها الى أقاصي العالم، وجعلتها تستوطن في بلد مثل الهند، مدة خمسة قرون، وتتحول الى هذه البلاد الى مصدر لتخريج الضباط والسياسيين والخبراء يتوزعون على البلاد العربية والاسلامية، بل تحولت الى حكومة ظل للتاج البريطاني خارج جزيرة بريطانيا الصغيرة، وتحمل اسم "حكومة الهند البريطانية".
هذه الصورة الذهنية لم تفارق عقول البريطانيين تحديداً حتى الازمان المتأخرة من تاريخهم الاستعماري، وحتى آخر يوم تعرضوا لصدمة المقاومة ثم الانتفاضة المسلحة على يد ابناء العشائر العراقية وجميع ابناء الشعب العراقي، حتى أن الضباط المكلفين إدارة شؤون المناطق العراقية، لم يصدقوا الواقع العراقي المتطلع نحو الوعي السياسي وتقرير مصيره بنفسه.
الوعي السياسي برعاية المرجعية الدينية
لاسباب عدّة؛ كان العراق - وما يزال- متميزاً بأرضيته الخصبة لنمو الوعي السياسي، وهذا ما فاجأ البريطانيين بشدة، -كما أشرنا الى هذه الحقيقة في مقال سابق- وجعلهم يتعرضون لصدمة ثورية عنيفة من شعب بعد لم تستقر فيه قواتهم سوى سنوات قلائل، ولعل من هذه الاسباب؛ وجود المرجعية الدينية الرشيدة متمثلة في الامام الميرزا محمد تقي الشيرازي، الذي عرفه العراقيون بمواقفه الجهادية من أن وطأت اقدام البريطانيين أرض العراق، فبعد فترة وجيزة من اجراء الاستفتاء عام 1918، تم تأسيس "الجمعية الوطنية الاسلامية" بإشراف منه، وإدارة مباشرة من نجله الأكبر؛ الشيخ محمد رضا الشيرازي، وقد تأسست هذه الجمعية في كربلاء المقدسة، وضمت في عضويتها شخصيات دينية وعشائرية، ابزرهم؛ السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني، والسيد حسين القزويني، والسيد عبد الوهاب الوهاب، والشيخ ابو المحاسن، والشيخ عبد الكريم العواد، والشيخ عمر الحاج علوان، والشيخ عبد المهدي قنبر، وكان من أهم أهدافها: العمل ضد حكومة الاحتلال البريطاني وتحرير العراق وتأسيس حكومة مستقلة فيه.
وجاء في رسالة جامعية لشهادة الماجستير للطالب؛ علاء عباس نعمة، تحت عنوان "محمد تقي الشيرازي ودوره السياسي في مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق"، بأن "فروعاً عدّة نشأت للجمعية الوطنية الإسلامية في العديد من المدن ومناطق العشائر العراقية والتي كان لها دور كبير في نشر فتوى الشيخ الشيرازي "حرمة انتخاب غير المسلم" في كل أنحاء العراق وخاصة في مناطق الفرات الأوسط"، في اشارة الى الاستفتاء الذي نظمه البريطانيون لتضليل الشعب العراقي والعالم بأنهم يستفتون الناس بمن يرغبون ان يحكمهم، "كما كان لهذه الجمعية دور كبير في إنهاء الصراعات والخلافات بين رجال العشائر والقبائل العراقية ، إذ قامت بإجراء اتصالات كثيرة ومتواصلة بهم من أجل توحيد الصف الوطني وتوجيهه نحو قضية العراق الأولى والهدف الرئيس هو الاستقلال عن النفوذ الأجنبي".
كان لنشاط هذه الجمعية والمبادئ التي حملتها وبلغت بها الى انحاء العراق، الاثر الكبير في نفوس مختلف الشرائح الاجتماعية لاسيما العشائر في الوسط والجنوب، وعززت من العلاقة بين المجتمع العراقي ومرجعيته الرشيدة في ظل مؤامرات ودسائس لم يكف عنها البريطانيون للسيطرة على مقاليد الامور في العراق، سواءً بشكل مباشر من خلال وجودهم العسكري، او من خلال زرع اشخاص وجماعات متأثرة بالثقافة الغربية ومؤيدة للسياسات البريطانية، وابرز ما قامت به هذه الجمعية، نشر فتوى الامام الشيرازي بتحريم "انتخاب غير المسلم للإمارة والسلطة..."في الاستفتاء، لاسيما وأن الفتوى وصلت الى عدد كبير من علماء الدين، ووضع سبعة عشر منهم أختامهم عليها تأييداً وتضامناً.
كما عملت هذه الجمعية على نشر فتوى أخرى للامام الشيرازي بحرمة الانتساب الى دوائر الحكومة العميلة لبريطانيا، الامر الذي دفع بالكثير من الموظفين بتقديم استقالات جماعية من دوائرهم، لاسيما دوائر الشرطة، وهذا اشارت اليه "المس بيل" في مذكراتها عن تلك الفترة.
إن الحضور السياسي الفاعل للامام الشيرازي في الساحة، والتصدّي الشجاع لمجمل الاوضاع السياسية، بعث في النفوس الثقة العالية بامكانية فعل كل شيء لمواجهة المخططات البريطانية، ثم تحقيق ما يصبو اليه الشعب العراقي من اختيار حاكم عربي ومسلم، وليس حاكماً عسكرياً بريطانياً.
محاربة التسطيح الوعي
فتوى المرجعية الدينية، ليست حكماً شرعياً يقتضي الطاعة والالتزام به فقط، وإنما المطلوب وعي هذا الحكم الشرعي وضرورته وتأثيره في الحياة، بمعنى أنها طاعة بعيون مفتوحة وبصيرة ثاقبة، وبهذا الشكل تأخذ الفتوى مجراها في الواقع، ويتحسس الناس تأثيرها على حياتهم، ولذا نجد أن فتوى تحريم التبغ في ايران من قبل المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، لفتت انتباه الشعب الايراني الى حقوقه وامكانية هدرها بسهولة وانتهاك حريته وكرامته، والشيء نفسه فعله تلميذه الامام الشيرازي في مقارعته الاستعمار البريطاني، فالى جانب نشر الوعي الديني من خلال المبلغين والخطباء والعلماء، حرص على نشر الوعي السياسي بين الناس وإرشادهم الى الطريقة التي يحققون بها طموحاتهم واهدافهم المشروعة، بالمقابل نلاحظ المساعي الجارية منذ تلك الفترة وحتى اليوم، والى أمد غير معلوم، لتسطيح الوعي وتضليل الرأي العام لتوجيهه وفق المصالح السياسية للأنظمة الديكتاتورية الحاكمة، وهو ما شهدناه طيلة العقود الماضية، وفي العهود التي تلت عهد الاستعمار في العراق.
والفارق واضح وكبير بين تسويق الشعارات القومية والوطنية الكاذبة لزج الناس في الحروب والصراعات السياسية الدامية، وبين فتوى مراجع الدين التي تكشف حقيقة هذا التيار السياسي او ذاك الحاكم الديكتاتور المتلفع برداء الوطنية والتنموية والتقدمية وغيرها من الشعارات البراقة، فعندما يفتي مرجع دين بحرمة الانتماء الى احد الاحزاب السياسية – مثلاً- فهذا يدعو الى المزيد من التعرّف على هذا الحزب وافكاره والاسباب التي جعلته يستحق هذا التحريم والتحذير، ولكن عندما يصدر أمر من رئيس نظام حاكم، مثل صدام في العراق، فان الشعار الذي يسبق الأمر؛ "نفذ ثم ناقش"، وهي عبارة تحمل نوعاً من المجاملة في الاوساط الحزبية، لأن الحقيقة هي "نفذ ولا تناقش" لأن مصير المناقشة الى أقبية السجون والزنزانات المظلمة والموت، وهكذا عرف الشعب العراقي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد ايران، بانه لم يقاتل دفاعاً عن "البوابة الشرقية للوطن العربي"، وإنما دفاعاً عن الكرسي الذي يجلس عليه صدام، وهذا حصل عندما أعلن لايران أنه يعيد الاعتبار الى اتفاقية الجزائر التي مزقها بيده، وقال: "لقد تحقق لكم ما طلبتموه"!!
وتستمر فتوى المرجعية الدينية الرشيدة في تعميق الوعي السياسي الى يومنا هذا، بفتوى المرجعية الدينية بالجهاد ضد تنظيم داعش التكفيري والوقوف امامه بقوة وحزم منذ عام 2014، ثم طرده من معظم الاراضي العراقية، فكانت الاستجابة الجماهيرية المنقطعة النظير وما شهده العالم من تضحيات جسام أثمرت عن انتصارات باهرة في سوح الجهاد، والى جانبها نضوج حالة من الوعي الديني والسياسي في اوساط المجتمع العراقي بأنه قادر على تقرير مصيره بنفسه وصنع الحدث السياسي دون الاعتماد على جهات خارجية.
اضف تعليق