في مداولة بين محترفي السياسة وصنّاع الأفكار، ينبثق جدل حول من يتبوّأ الصدارة في قيادة الآخر، ومن الذي يصنع من، فهناك من يرى أن الفكر هو الذي يحدد المنهج السياسي للدولة في مسارات معرَّفة، ومنهم من يرى أن طبيعة النظام السياسي الحاكم هي التي تتحكم بالفكر والمفكرين، توجد عدة تصورات ومدارس حول هذا الشأن، بالنتيجة نخلص الى القول أن الفكر يتصدر الحياة برمتها وليس السياسة وحدها، خاصة إذا عرفنا أن من يقود العالم بحسب المعطيات هي الحضارة الغربية القائمة على الفكر الرأسمالي، بيد أن هنالك إشكالية مثيرة تتعلق بطبيعة هذا الفكر (ونرجسيته)، ومنحدراته التكوينية والنفسية حيث تم تصنيفه من لدن الآخرين على أنه فكر عنصري يعاني من التضخم النرجسي.
فإلى أي حد تصح مثل هذه الأسئلة، وهل من حق الآخرين مناقشة نرجسية الفكر الغربي وما مدى صحة انطباقها على الواقع العالمي؟، وقبل ذلك من هو الغرب وما هي مجسداته، إن الغرب في أبسط تعريفاته اللغوية والمعنوية هو أحد الاتجاهات الأربعة، ويقع إلى يسار خط جرينتش، في الجهة المعاكسة لاتجاه الشرق، وهو موضع غروب الشمس، حيث يقم العالم الغربي بالفعل.
وقد يكون المقصود العالم الغربي وهو مصطلح متعدد المعاني وفقاً لسياق الحديث - أي حسب الفترة الزمنية والمنطقة والحالة الاجتماعية- وعليه فإن التعريف الأساسي للغرب متنوع حيث يتوسع ويتقلص مع الزمن وفقاً للظروف التاريخية المختلفة.
ويعود مفهوم العالم الغربي في جذوره إلى الحضارة اليونانية والرومانية في أوروبا وظهور المسيحية والانشقاق الكبير في القرن الحادي عشر الذي قسّم الدين إلى شطرين شرقي وغربي. وقد تأثرت الثقافة الغربية بشكل كبير بتقاليد الثقافة المسيحية في العصر الحديث وعصر النهضة والتنوير وساعدت على ذلك المرحلة التوسعية الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتم استخدم هذا المصطلح من طرف الإتحاد السوفياتي وحلفائه خلال الحرب الباردة ضد أعدائهم بداية من منتصف القرن العشرين حتى وقت متأخر من القرن.
ترويض التطور المادي الغربي
أما في السياق السياسي والثقافي المعاصر فيشير مصطلح العالم الغربي بشكل عام إلى دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وأوروبا الوسطى وأميركا اللاتينية وإسرائيل وجنوب أفريقيا، بحسب المجسات الجغرافية وكما تظهر لنا الخرائط المكانية للكيانات السياسية لهذه المناطق أو الدول، ولكي نخرج بخلاصة مفيدة عن صحة أسباب التضخم النرجسي في الغرب، لابد أولا أن يتم طرح التساؤلات التي تشغل عقول الشرقيين ومنهم المسلمين والعرب، فثمة أسئلة من القبيل التالي:
كيف تعامل الغرب سياسيا مع الشرق وسواه؟، وماذا فعل الاستعمار بالعالم؟ وما هي نتائج أفعاله على أفريقيا واسيا والشرق عموما، فهناك من يؤكد ويجزم على أن كل ما قدمته الحضارة الغربية مادي بحت تقريبا، فهي أفلحت في تطوير المادية بسرعة هائلة، وجعلتها أكثر تحكما بمصير العالم، لكنها بحسب العلماء المختصين فشلت في تربية الإنسان الوعي لقيمته الإنسانية، أو الإنسان القادر على تأهيل التطور المادي وترويضه وجعله في خدمة البشرية.
كذلك هناك عجز وقصور في صناعة العقل الأخلاقي، وهذا ليس علماء الشرق هم الذين أطلقوه على الفكر الغربي النرجسي، وإنما علماء الغرب هم من بادر الى ذلك، واعترف عدد منهم بأن مسؤولية قيادة العالم حضاريا لا تعني أن يعيش الإنسان في ظل جانب عمراني وصناعي وطبي وفضائي سريع التطور كما يجري الآن، وإنما هنالك مسؤولية فكرية تربوية أخلاقية ذات طابع بشري شمولي تستدعي أن تكون المادة ليست المظهر الوحيد للحضارة الغربية والبشرية على وجه العموم.
وربما هذا ما يفسر ظهور موجة أخلاقية تربوية يقودها عدد من مفكري الغرب الأخلاقيين، ويدعون فيها الى صناعة العقل القادر على التقريب بين البشر وليس زيادة الفجوات فيما بينهم، كما لاحظنا ذلك في كتاب (هوارد غارنر/ خمسة عقول من أجل المستقبل)، وهذا يعني وجود اعتراف ضمني أو صريح بأن فكر الحضارة الغربية يسير (حتى هذه اللحظة) في الاتجاه الخاطئ، فما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟.
إعادة صياغة لنرجسية الفكر
أولا: التضخم النرجسي: من أكثر الأسباب وضوحا في هذا الجانب هو التضخم النرجسي الذي أصاب الغرب بسبب شعورهم المتعاظم بأنهم قادة البشرية، وأنهم الأكثر قوة من الآخرين، فجعلوا من نظرية داروين أساسا لهذه العظيمة، خصوصا أنهم رددوا كثيرا مفهوم أو مقولة (البقاء للأصلح)، متخلين بذلك عن أهمية التعايش العالمي وإبعاد التبجح وتجنب حالة التضخم النرجسي القائدة على استصغار الآخر، ونسيان أن البشرية ترتقي مركبا واحد يحمل القوي والضعيف وقد يغرق كلاهما في حالة إهمال التعاون فيما بين الجميع.
ثانيا: العنصرية الفكرية: يرى الغربيون أنهم الأصلح من سواهم، وتصاعدت هذه النزعة العنصرية منذ الجذور الأولى لظهورها، وفيها مظاهر استعلاء بالغة تمنح الغربيين أولوية على غيرهم من الأقوام والأمم، وفي هذا إجحاف للجهد البشري المشترك الذي قدم الكثير في المجال الفكري لكي تمضي البشرية في الجادة الصواب عبر مراحلها التاريخية، وبالطبع ينم هذا النوع من الهواجس عن إصابة بما يمكن أن نسميه بمرض التضخم النرجسي الذي أثبت الغرب بأنه يعاني منه، طالما أن حالة الإقصاء قائمة، حيث تعود جذور هذا النوع من التفكير الى الفترة التي هيمن فيها الاستعمار على مناطق واسعة من العالم، مثل أفريقيا ودولا عديدة من آسيا، وتم نهب ثروات العالم بشكل منظم، حتى الجهود البشرية تم نقلها واستنزافها فيما يسمى بتجارة الرقيق، وقد انتهت هذه المرحلة بتشويه الفكر الغربي وإصابته بمرض الاستعلاء والنرجسية والنظر الى الأمم الأخرى على أنها تابعة وليس مرادفة له.
ثالثا: الطغيان المادي: كل ما تقدم أقصى الفكر والقيم وجعل منها في أسفل القائمة أو في آخر الركب، لذلك شغلت هذه المشكلة الكثير من المهتمين، حيث أن تفضيل المادة على القيم تعد إشكالية مخيفة تستهدف الفكر الإنساني كله وليس الغربي وحده، وباتت هذه الهواجس تشكل خطرا داهما على العالم أجمع وليس على الغرب وحده، خصوصا أننا نلاحظ الانحدار الأخلاقي السريع للغرب وهيمنة المادية والربحية بغض النظر عن إلحاق الأذى بالآخر، فالمهم هنا تحقيق المآرب والمكاسب المادية أولا.
في خلاصة ما نود طرحه هنا، أن المطلوب هو إعادة صياغة لطبيعة الفكر الغربي، ونظرته الفوقية الى العالم، والعمل بجدية وبصورة منتظمة على معالجة ظاهرة التضخم النرجسي التي أصابت الغرب في الصميم، والمطلوب هو وضع رؤية عالمية شاملة قائمة على التعاون والمشاركة، ونبذ الفوقية التي تشجع على العنصرية والتطرف وانتشار الإرهاب بصورة أوسع مما عليها الآن، إذ لا يمكن للغرب أن يتعامل مع الآخرين بنظرة نرجسية عنصرية، وفي الوقت نفسه يريد أن يعيش في عالم مسالم، في البدء يجب تصحيح القواعد الفكرية الغربية القائمة على (الفوقية)، والتركيز على تطوير الجهود العالمية المشتركة لتصحيح أخطاء الغرب.
اضف تعليق