مرّت زهاء خمسة عقود على صدور النسخة الإنجليزية من مؤلف هشام شرابي "المثقفون العرب والغرب"، ولعله بات من المشروع، في الوقت الحالي، الحديث عن المثقفين العرب في الغرب، بعد أن شهدت الساحة تطورات مهمة في هذا السياق. إذ يشغل المنتوج الثقافي العربي القادم من الغرب، إبداعاً وتأليفاً وترجمةً، حيزا معتبرا ضمن خارطة الثقافة العربية الحديثة، عبر ما يسهم به بشكل فعّال في اجتراح مسارات مستجدة. وإن نال هذا المنتوج شيئا من الاهتمام، فإن المنتِج لم يحظ بالقدر الكافي من المتابعة. ومن هذا الباب نقدّر أن النخبة الفكرية العربية في الغرب تحتاج إلى معالجة رصينة ومتأنية، تُتابَع من خلالها أدوارها وتُتفحَّص على ضوئها هويتها، بعيدا عن أية وعود مبالغة أو أحكام مسقَطة. ومع أن الخاصية المشتركة بين عناصر تلك الشريحة الانتماء، في ما مضى، إلى بنية حضارية موحَّدة، فإن مقامها الدائم في مجتمعات غربية، قد عزّزها بعناصر مستجدة طفحت من خلال رؤاها ومواقفها.
المثقف كائن عابر للثقافات
ذلك أن نعت المثقفين العرب في الغرب يشمل في مطلقه عموم العاملين في الحقل الثقافي، والمنشغلين بالقضايا المعرفية والرمزية العائدة إلى الثقافة العربية. أي تلك الفئة التي يزعم عناصرها التأثير في الواقع بالأقوال والمعاني والأفكار، بناء إلى ما يأتونه من دور وظيفي اجتماعي، على ارتباط مباشر بالمجتمعات الغربية الحاضنة، أو غير مباشر يعود إلى مجتمعات المأتى؛ كون التمييز الوحيد بين لفيف المثقفين وغير المثقفين ما يؤدونه من وظائف اجتماعية، تبعا للتعريف الذي صاغه أنطونيو غرامشي في مؤلفه "المثقفون وتنظيم الثقافة".
وضمن مسار تكوّن هذه الفئة، ثمة شريحة من بينها دفعتها ظروف عدة، اجتماعية أو سياسية أو دراسية أو ما شابهها، للتواجد في الغرب. ولم تكن إقامتها طوعية بمحض إرادتها بل هي على أهبة دائمة للرحيل. وعادة ما يلقى أفرادها رهقا وضيقا في مقامهم الثاني، ولا أقول موطنهم الثاني، فالعودة هاجس دائم بينهم. والمثقف الذي يتعامل مع الغرب تعاملا خاطفا وظرفيا، ينتزع منه شهادة، يكتسب منه خبرة، يستقي منه ثقافة، ليعود عقب ذلك إلى بلد المأتى، هو مثقف عابر؛ وبالمقابل هناك شريحة لا تجد ذلك الحرج وقد اختارت مقامها عن طيب خاطر، وهي العيّنة المعنيّة بالمتابعة في هذه المقالة.
فهي تلك النخبة التي تخوض جدلا مع الغرب، مع إحساس بالانتماء للمكان وانغماس في الجو الثقافي العام، دون أن تتنكر للسالف أو تقع في إغواء السائد. وهي وإن تشغلها العناصر الثقافية والدلالات الرمزية الواردة من الحضارة الأولى، فإنها تستدعي ما تتيحه لها ثقافة المقام الجديد من رؤى ومناهج، وتوظف ما تزخر به من أدوات، لتفسير الوقائع والإحاطة بفحوى المسائل وكنه ما خفي منها. لا يلغي ذلك، الإقرار بأن خيار الاستيطان والمكوث في الغرب ليس أمرا يسيرا. ففضلا عن عسر الاندماج، ومصاعب العيش، والأوضاع الطاردة أحيانا، يصطدم المرء بمواقف منغلقة، ترى في النازل بالغرب غازيا ومدعاة للانحراف بالمسار التقليدي للشخصية الجماعية.
ومع أن المثقف العربي في الغرب متحدّر من فضاء عربي، ويشتغل على قضايا عربية، أو يتعامل مع رؤى غربية على صلة وثيقة بالواقع العربي، فإن العامل الرئيس في بلورة وعيه يبقى حضورَه في بيئة حضارية مغايرة لما هو معتاد. وما تثيره هذه البيئة من هواجس ومشاعر، غالبا ما تخلّف رجّة، أو ما يشبه الصدمة، تنحرف بانسياب الفكر نحو مساره المعهود. وعلى ضوء هذا التطور الحاصل، تستدعي هوية المثقف العربي في الغرب تمعّنا وتحليلا. هل هو ذلك المثقف الهجين، الجائل بين ضفتين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أم هو ذلك الكائن الثقافي المتدثر بخصوصيات أنثروبولوجية تتجاوز الحصر المعتاد؟ في الحقيقة كل مثقف عضوي بالمفهوم الغرامشوي هو ابن بيئته الحضارية وشروطه الاجتماعية. والمثقف العربي في الغرب هو ذلك المثقف الواعي بأصوله والمدرك لواقعه ومصيره، ومن هذا الباب فهو كائن عابر للثقافات واللغات.
ولا يعني تبني ألسنة جديدة، في صياغة رؤاه، فقدانا للهوية الأصلية أو تنصلا منها، كما تخلص بعض الدراسات المتسرعة والسطحية عن ذوبان المهاجر، لأن هناك نواة صلبة في ما وراء اللغة تأبى الاندثار والتواري، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالهوية المتعالية. فاللغة ليست محدّد هوية، كما هو معتاد في التعريف داخل المجال التاريخي العربي، بل تغدو الإطار الحاوي لما هو أوغل وأعمق.
التموقع والرهانات
يجرّنا ذلك إلى معالجة مسألة تموقع المثقف العربي في الغرب. إذ يعلّق البعض على ذلك المثقف وعودا جمة، على غرار دوره في الدفاع عن قضايا العرب، أو الترويج لثقافة يُفتَرض أنها تتضمن قيما ومفاهيم، أو أحيانا تحميله ما لا يحتمل، بصفته يشكل اختراقا سلسا لعالم مهيمِن، طالما أرهق الثقافات الواهنة وأضناها. والحال أن المثقفين العرب في الغرب ليسوا بالقدر نفسه من حيث استيعاب المخزون الثقافي العربي، ولا يحملون العمق نفسه من حيث الإحاطة بماضيهم، أو الانشغال بحاضرهم، أو القلق على مستقبلهم، وإن جمعتهم خلفية حضارية واحدة. وهو ما يجعل استيعاب المثقف العربي للثقافة الأمّ، ووعيه بتاريخ تلك الثقافة، من العوامل الحاسمة في عملية المثاقفة، وفي بناء علاقة تفاعلية مع الثقافة الثانية، التي تغدو طاغية عليه من حيث الاستهلاك والتأثير. وبالتالي توجِّهُ هذه العوامل مسارات المثقف وتؤثر على أنشطته في الواقع الغربي.
وبالمقابل من الجهة الأخرى، يريد البعض حصر نشاط المثقف العربي في الغرب في دور الوسيط، ليصدِّر رؤى الحضارة المهيمِنة إلى العرب، وليكون مطية تُمرَّر عبره أفكار وسياسات ومشاريع. وفي واقع الأمر، المثقف العربي في الغرب لا هذا ولا ذاك، فهو كائنٌ وعيهُ مترنّحٌ بين ثقافتين، ومسلكه نابعٌ من هذا المرَج الحاصل بين إرثين. حيث يغدو نظرُه مشرَّعاً على هموم كونية، وتتحول قضايا العرب معه إلى قضايا إنسانية متخلصة من بعدها القومي ومضامينها الوجدانية. إذ نلحظ أحيانا تبسيطا لدور ذلك المثقف إلى درجة ساذجة، بتحويله إلى مجرد جسر رابط بين ضفتين –إن صح التعبير-، وأحيانا بمثابة العتال المتنقل جيئة وذهابا بين مخزنين، مهمّتُه نقل البضاعة دون أي تدخل في تصنيعها أو إنتاجها.
والحال أن المثقف العربي في الغرب ليس موفَدا حضاريا تقتصر مهمته على نقل ما يجول في الحضارة الغالبة إلى بلد المأتى، أو جلب روائع الثقافة الأم إلى أرض المقام الجديد، بل هو كادح في الحقل الثقافي بكل ما يشمله ذلك الدور من تفكيك وتركيب ونقد وتأويل. يلتقي بشكل عام مع ذلك الدور المسؤول الذي رسمه بيار باولو بازوليني للمثقف منذ سبعينيات القرن الماضي في قوله: "أعرف لماذا أنا مثقف، لأن الكاتب يحاول أن يلاحق كل ما يجري، أن يلِمّ بكلّ ما يُكتب، أن يتخيل كل ما خفي عنه وكل ما لا يدور حديث بشأنه؛ يربط أحداثا متباعدة، يجمّع أجزاء متشظية وغير منتظمة ضمن إطار سياسي شامل، ابتغاء إرساء منطق حين يسود اللامنطق ويدبّ الخلط وتشيع الغرابة".
فالمثقف العربي في الغرب، تبعاً لوظيفته الثقافية المتشعبة والمركَّبة، فهو يشتغل داخلا وخارجا، وكما يتوجه إلى الواقع الغربي يتطلّع بروحه إلى العالم العربي أيضا، ما يجوز أن نطلق عليه بالدور المزدوج؛ مع أن شقا من هؤلاء المثقفين يكدحون على جبهة واحدة، عربية خالصة أو غربية خالصة. ومع ما يساهم به المثقف العربي في الغرب من نصيب معتبر، في الحراك الثقافي داخل البلاد العربية، فإن مساهمته تلك لا ترتقي إلى مستوى فعله ودوره ضمن الخارطة الفكرية الغربية، التي بات يرتبط بها معاشه ومآله.
وبالتتبع لعوامل تموقع المثقف العربي في الغرب، نرصد، من حين إلى آخر، حدوث حالات نكوص في أوساطهم. فهم ليسوا في حصن منيع ومنزَّهين، كما قد نتوهم، حيث يصاب البعض بنزغ من التنصل من الميراث السالف ومن الولاء السالف، وقد تبلغ الحالة مستوى متطورا يمسّ ما هو روحي، ربما حالة المغربي جون محمّد عبد الجليل (1903-1979) في ما مضى، والمصري مجدي كريستيانو علاّم في إيطاليا، في الوقت الحالي، تغني في هذا السياق. وقد تتحول تلك الشخصية الناكصة ضمن ذلك الحدث الانقلابي إلى شخصية مستنفرة، ومتملصة من كل ما يرتبط بالإرث الأول، إمعانا في التماهي والذوبان في الجديد.
الغرب والمكوَّن الثقافي العربي
صحيح أن المثقف العربي في الغرب، بفعل عيشه في واقع يراه ويلامسه، يجد نفسه أكثر قدرة على الإحاطة والتمييز بين عناصر الواقع الغربي. في وقت يتعامل فيه المثقف في البلاد العربية مع الغرب عن بُعْدٍ، وما ينجرّ عن ذلك من انزياح زمني وواقعي، يحول أحيانا دون الإلمام بالوقائع. لذلك تتولد لديه طورا رومانسية وتارة عدائية تحجب عنه الرؤية الموضوعية المتزنة.
ولكن الالتحام بالواقع والقرب المفرط منه أيضا قد يورث أحيانا غشاوة، وبالتالي لزم المثقف أن يكون على مقدرة عالية من النقد والتحليل، حتى يدرك مكمن الخطأ والصواب، لأن هناك منزلقات عدة تتربص بهذا المثقف.
حيث غالبا ما يُنصِّب المثقف العربي في الغرب نفسه معلّما لحضارة المأتى، بدعوى هيمنة الطابع التقليدي عليها وافتقادها للروح الحداثية، متوهّما أن المسار التاريخي للحضارة المهيمِنة هو المسار الأوحد للنهوض. وبفعل السطوة الجارفة للغرب يحاول المثقف أن يتمثل تلك الهيمنة ويعيد إنتاجها مع ثقافته الأولى، وهو ما قد يجرّ للانخراط في نوع من الوصاية المجانية.
نجا من ذلك الدور الراحل إدوارد سعيد، رغم ما حازه من تقدير في الأوساط الأكاديمية والثقافية الغربية يفوق ما أتيح لغيره، فقد عصمته نباهته النقدية الفائقة من لعب ذلك الدور. كما ينبغي التنبه إلى أن بعض المثقفين العرب في الغرب تُسلَّط عليهم مرئية عالية غير بريئة، لتمرير توجهات سياسية أو لتصدير حمولات فكرية فينخرطون في أدوار مغشوشة. كما أن هناك أصنافا أخرى من المثقفين تتولد ضمن هذا السياق المتطور، على غرار المثقفين الغائبين في الغرب واللامعين في الشرق، يبيعون المشورة السياسية وفق القياس والمقام، ويتلوّن خطابهم من محطة إعلامية إلى أخرى حسب الطلب. يستعرضون أحيانا وظائفهم السابقة بتبجح لافت (باحث سابق، خبير سابق...) لكسب مصداقية في أوساط الرأي العام العربي ونيل حظوة. ولسان كل منهم يردد جئتكم من الغرب بنبأ يقين. ويغفلون عن أن المثقف في البلاد العربية ليس غِرّاً حتى يغويه كل من نادى اتبعوني أهدكم صراطا سويا.
وبالنهاية وضمن إطار حديثنا عن سوسيولوجيا المثقّفين العرب في الغرب، يستدعي المقام طرح سؤال عن مدى مشروعية الحديث عن المثقف العربي الغربي؟ أي التحول بالحديث من المثقف العربي في الغرب إلى المثقف العربي الغربي، ذلك المثقف ذو الجذور العربية والمتماهي مع واقعه "الجديد"، ضمن مستوى متطور من الانسجام، لا ينغصه الانفصام ولا تحركه الأوهام، وذلك بعد أن بتنا نلمس حقيقة المكوَّن الثقافي العربي في الغرب.
اضف تعليق