أيقنت الجهات الاقليمية والدولية المتربصة للشيعة في العراق، بوجود عناصر قوة تحفظهم من الانزلاق نحو الفشل والهزيمة او اتخاذ خطوات كارثية قاتلة في ساحة المواجهة، وهذا ما توصلوا اليه في أول اختبار بعد صعود الشيعة الى قمة السلطة لأول مرة منذ عدة قرون، من خلال إشعال الفتنة الطائفية بشكل عنيف ودموي، وكان من المتوقع حدوث حرب أهلية – طائفية على غرار ما حصل في افغانستان ولبنان والصومال والسودان وغيرها، بيد أن هذا لم يحصل، سوى بعض ردود الفعل الفردية هنا وهناك، ولم ترق الى مستوى الحرب المكشوفة.
ولم يكن خافياً دور المرجعية الدينية في نزع فتيل الانفجار، وتحديداً بعد الاعتداء بالنسف على مرقد الامامين العسكريين، عليهما السلام، في سامراء، حتى ان علماء الدين السنة وشخصيات سياسية ومراقبين اعلاميين أشاروا الى عامل القوة هذا، كما اشاروا الى فقدانه في المجتمع السنّي الذي حاولت اطراف اقليمية دفعه بقوة لخوض الصراع الطائفي مع الشيعة في العراق تحت شعار استعادة الحقوق الضائعة منذ الاطاحة بنظام صدام.
والى جانب القيادة المرجعية؛ هنالك عامل قوة آخر متمثل في العقيدة والاخلاق، التي تغذي الثقافة والسلوك في المجتمع الشيعي على طول الخط، وهو من الضروريات اللازمة في أية مواجهة، ويسمى في العلوم العسكرية بالمعنويات المحفزة على خوض الصراع والحرب انطلاقاً من مبادئ وقيم يؤمن بها الانسان، فيضحي من اجلها بكل شيء حتى بروحه، وقد سجلت الكاميرات مئات اللقطات والمقاطع لمواقف استثنائية من أبطال الحشد الشعبي والقوات الامنية وهم ينقذون الاطفال والنساء من قناصي داعش او يحملونهم على الأكف والأظهر بعيداً عن نيران المعارك.
اجتماع هذين العاملين هو الذي قلب موازين القوى العسكرية لصالح الشيعة في مواجهة قوة عسكرية منظمة كادت او تصل بزحفها السريع الى تخوم بغداد في حزيران عام 2014، بعد احتلال حوالي ثلث العراق، وجميع المحافظات والمدن السنية، وهي توحي الى عناصرها والناس الموجودين بأنهم سيعيشون طيلة حياتهم في ظل "دولة الخلافة الاسلامية"، فتبدد الحلم منذ الايام الاولى، عندما انطلقت طلائع الحشد الشعبي بفتوى المرجعية الدينية لتطهر المناطق المحتلة الواحدة تلو الاخرى.
في ظل معطيات كهذه، كيف يجب التعامل مع عوامل القوة، ومع هذه الانتصارات للانتقال الى مرحلة اخرى من بناء الدولة والمجتمع، سياسياً واقتصادياً وثقافياً؟
إن المجتمع العراقي اليوم يشهد لأول مرة في تاريخه –ربما- ظهور شريحة جديدة ولدت من رحم المواجهة الدامية والمصيرية، فاكتسبت الوعي والمسؤولية والشجاعة من اجل القيم والمبادئ، هذه الشريحة تضم أبناء الشهداء و اخوانهم وبناتهم و زوجاتهم وامهاتهم وآبائهم وأقربائهم، الى جانب الجرحى والمعوقين، يضاف اليهم الاعداد الكبيرة المشاركة في العمليات العسكرية طيلة الفترة الماضية، هؤلاء جميعاً يشكلون قوة ناهضة من شأنها التأثير على القرار السياسي وخلق واقع جديد في العراق عنوانه الإصرار على التغيير واختيار البدائل المفضلة لما هو فاسد وفاشل، يكفي ملاحظة الحراك الثقافي الرائع لطلبة الجامعات في العراق، بتشكيل أسواق ومعارض لبيع الصناعات اليدوية من مواد غذائية ومقتنيات واكسسوارات، وجمع المردود المالي برمته وارساله الى جبهات القتال، وقد وصلت المبالغ المرسلة من الجامعات من جهود الطلبة والطالبات، بعشرات الملايين من الدنانير.
مما يبعث عن الأسف أننا وقبل ان نفكر ونخطط لاستثمار هذه البطولات والمبادرات والافكار الرائعة، نكون مجبرين على التعامل مع افكار الآخرين ومشاريعهم ليتعاملوا مع عناصر القوة الشيعية كما تفعل السعودية اليوم، لا كدولة مجاورة تريد الخير والتقدم للعراق وشعبه، وانما العكس تماماً؛ لانتزاع كل عوامل الخير والأمان والاستقرار، وما أحوجها الى هذا في الوقت الراهن! بعد أن أحيط بها من كل جانب، حتى من الجبهة الداخلية، فقد ضربت رقماً قياسياً بين كل دول الشرق الاوسط في الهزائم السياسية والعسكرية، بعد ان كانت تتصور انها الأخ الاكبر للدول الخليجية، ومصدر لقمة عيش الملايين من البشر، يضاف الى واجهتها الدينية العالمية، كل ذلك تعرض لتصدّع عنيف لم تشهده في تاريخها؛ فمن الهزيمة السياسية في لبنان، الى الاهتزاز في علاقاتها مع مصر، نزولاً في المأزق اليمني، ثم عروجاً على الازمة المتفجرة مع الجارة قطر، وليس آخراً بعلاقاتها المأزمة والمتوترة اساساً مع ايران، كل هذا وغيره، يؤكد لأي متابع بسيط في العراق عدم عقلانية وجود "العراق الحشداوي" إن صحّت العبارة، بما يحمل من أوسمة نصر ومفاخر وعوامل قوة، على طاولة واحدة مع دولة مثل السعودية، إلا اللهم؛ ان تكون القضية في إطار العلاقات الدبلوماسية والتجارية وأمور الحج.
في تجارب الجيوش القوية مبدأ اساس، يقضي بالتفكير بكيفية الاحتفاظ بالارض قبل السيطرة عليها، وفي العراق لا تسيطر القوات الامنية والحشد الشعبي على أي شبر أرض من المناطق المحررة من داعش، إنما تعاد الى أهلها ليمارسوا حياتهم الطبيعية، ولكن؛ تحتفظ بالتفوق وكل اسباب الانتصار والنجاح مما يمكن ان يساعد على تحقيق نجاحات في ميادين اخرى يواجه فيها العراق تحديات ماحقة، ليس أقله الميدان الاقتصادي والعلمي والتنموي.
وبما أن هذه الانتصارات ليست ملكاً لجهة دون أخرى، او جماعة دون أخرى، إنما هو ملك العراقيين جميعاً، فان مسؤولية الحفاظ على هذا المنجز، على عاتق الجميع ايضاً، حتى تعرف السعودية او أي جهة مهما أوحت لنفسها من هالات العظمة والقوة، أنها لاتقف امام شخص او جماعة او حتى حكومة في العراق، إنما تقف أمام شريحة واسعة من عوائل الشهداء والجرحى والمعوقين من الحرب الضروس ضد الجماعات الارهابية طيلة السنوات الماضية، لاسيما الحرب الظافرة على تنظيم داعش، وهذه الشريحة تشع بإضاءاتها الى سائر شرائح المجتمع، تنشر ثقافة التعاون والتضامن والشعور بالمسؤولية إزاء الارض والعرض والمقدسات.
اضف تعليق