سقوف الأزمة الخليجية ارتسمت، وضبط إيقاعها المايسترو الأمريكي، دونالد ترامب في اتصالاته الهاتفية مع الزعماء والقادة، وريكس تيلرسون في جولته الخليجية الأولى والأخيرة حتى الآن، وهي ستراوح بين حدين من المتعذر بلوغ أي منهما في الأمد القريب: الانفراج الكامل أو الانفجار الشامل... وطالما أن الأزمة ستظل في دائرة السيطرة والاحتواء، فلا أحد في عجلة من أمره أو يبدو مستعداً للإلقاء بكامل ثقله لحلها، بل أن اطرافاً عديدة، أهمها الولايات المتحدة، تجد مصلحتها الأعمق في إطالة أمد الأزمة وإدارتها.
الرباعي العربي بات يدرك أن ثمة سدوداً أمريكية – أوروبية، تحول دون مضيه في الخطوات التصعيدية التي لوّح بها من قبل، فلا الخيار العسكري ممكن أو مقبول، ولا المزيد من إجراءات الخنق والحصار بات مرجحاً، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد وجدت عواصم هذا الرباعي نفسها مضطرة لتقليص قائمة مطالبها الثلاثة عشر المحددة، إلى مجرد إعلان مبادئ عام، من ستة نقاط، لا يختلف عليها أحد طالما جاءت في سياق الالتزامات والتعهدات المتبادلة، وليس على شكل إملاءات يعلن فريق بعينه تقيده بها، بما يشي بـ" عودة الابن الضال"، كما أوضح الأمير تميم في خطابه اليتيم طيلة الأزمة.
ولا قطر قادرة على تكسير جبهة ا لائتلاف الرباعي بالرغم من محاولاتها تحييد السعودية وتجاهل مصر والتركيز على الإمارات والاستخفاف بالبحرين... كما أنها لم تعد قادرة على إنكار تورطها في أعمال تصنف في باب "دعم الإرهاب"... التكتيك القطري يقوم على تعويم هذه التهمة وتعميمها، فالكل تورط قدر قطر وربما أكثر منها في تقديم مختلف أشكال الدعم لمنظمات إرهابية وفقاً لوزير خارجية الدوحة، والتنازلات التي يتعين على قطر تقديمها، أو المراجعات التي يتعين إجراءها، ستقدم للولايات المتحدة وأمامها، بدل أن تقدم للرباعي العربي الذي فاجأ قطر بشدة حملاته عليها، إعلامياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً وتجارياً.
الباب لم يعد مفتوحاً إلا للتسويات والصفقات وأنصاف الحلول... لكن الأطراف صعدت بسرعة، وفي غضون أيام وليس أسابيع، إلى أعالي قمم الشجار، وهيهات أن تهبط عنها بسلام... الجميع يبحث عن سلالم وشبكات أمان لحفظ الوجه وصيانة المظهر... وهذه العملية ستأخذ وقتها في السياق الخليجي حيث يتداخل العائلي بالشخصي بالقبلي بالوطني عند كل قرار أو موقف... هنا لا داعي للعجلة والاستعجال، فجميع الأطراف قادرة على التكيف مع الوضع الراهن، ربما لبضعة أعوام قادمة.
الأطراف المتنازعة وجدت ضالتها في الخبرات المتراكمة للعمل العربي المشترك... فالدول العربية ظلت لستين عاماً تتحدث عن السوق المشتركة وتوحيد أنظمة الجمارك والحمايات وغيرها واعتماد الحريات الأربع: حرية تنقل الأفراد والسلع والخدمات والرساميل ، لكن تقدما لم يطرأ على هذا الصعيد، إلا بعد أن بدأت كل دولة عربية تدخل في عجلة العولمة الاقتصادية وتوقع اتفاقيات التجارة الحرة، فوجدنا صندوق النقد الدولي يوحد أسواقنا وتشريعاتنا الاقتصادية بدل جامعة الدول العربية... ورأينا "الحرب الأمريكية على الإرهاب" تجمعنا، بدل معاهدة الدفاع العربي المشترك.
الحكمة العربية في زمن التهافت والتفكك تقضي باستسهال تقديم التنازلات للدولة القائدة للعالم... كل ما طلبته الدول الأربع من قطر في ملف محاربة الإرهاب، قدمته الدوحة لواشنطن، ووقعت معها اتفاقاً بذلك، وواشنطن يصدد إحياء بعض أشكال الأنظمة الانتدابية، وإيفاد مراقبين لممارسة أعمالهم من مكتب النائب العام القطري... أما الدول الأخرى، بعضها على الأقل، فقد عرف كيف يسترضي السيد الأمريكي، لتخفيف حصته في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم، ولإبعاد شبح الاتهامات الجاهزة بالمسؤولية عن إشاعة ثقافة التطرف والكراهية وتشجيع الإرهاب... نحن لا نتنازل لبعضنا البعض، ولا نتقارب مع بعضنا البعض... نحن نفضل التنازل للغرب، واعتماده وسيطاً بيننا.
حتى بفرض إقدام الرباعي العربي على تنفيذ وعيده بتحويل ملف قطر إلى مجلس الأمن الدولي، فإن هذا المسعى سيصطدم بمواقف دول دائمة العضوية، لم تشتر الشروط الثلاثة عشرة، وتطالب بحلول سياسية-تفاوضية للأزمة... وحتى بفرض تنفيذ قطر لتهديدها بتحويل الدول الأربع إلى محكمة الجنايات الدولية، فهيهات أن تصل هذه القضية إلى خواتيمها... عض الأصابع ما زال مستمراً بين الأطراف والأزمة ما زالت بعيدة عن الانفراج، لكنها لن تصل إلى الانفجار في كافة الأحوال.
اضف تعليق