من قال إن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء؟... هذه قاعدة قد تنطبق على حركة الطبيعة، بيد أنها قد لا تكون صحيحة في ميدان السياسة وعالم التحالفات... هنا قد تعود العقارب إلى الوراء، مرات ومرات، وفي حركة دورانية وحلزونية، محكومة بحسابات المصالح وديناميات الحفاظ عليها.

عندما هبّت رياح الثورات والانتفاضات في العالم العربي، نظرت السعودية ودول خليجية أخرى، إلى "الربيع العربي" بوصفه تحد للأمن والاستقرار، بل وعامل تهديد لمستقبل كثير من أنظمة الاعتدال العربية المحافظة، يستوجب ترتيب البيتين السعودي والخليجي الداخليين، أعطيت الأولوية في البدء لتصليب وحدة مجلس التعاون، والانتقال بعلاقات مكوناته من "التعاون" إلى "الاتحاد"، واحتلت جماعة الإخوان المكانة الأولى في قائمة التهديدات، بعد أن تأكد أنها الوحيدة القادرة على امتطاء صهوة الثورات والوصول إلى سدة السلطة في غير دولة عربية... وحدها قطر شذّت عن القاعدة، ورأت فيه فرصة لتعزيز مكانتها ودورها الإقليمي، أما أدواتها لتحقيق هذا الغرض فانحصرت في ثلاث: المال، الإعلام والتحالف مع الإخوان... اهتزت وحدة دول مجلس التعاون، خصوصاً بعد الإطاحة بنظام الدكتور محمد مرسي، وبدا أن ثلاث أو أربع من الشقيقات الست، بصدد الدخول في مواجهات قاسية مع الدوحة، وصلت حد سحب السفراء، وشارفت ضفاف المقاطعة والحصار البحري وغير ذلك مما قرأنا أو سمعنا.

تغيرت الأولويات بعد التغيير الذي حصل في الرياض، وعلى وقع الزحف الحوثي على محافظات اليمن وسيطرتهم على العاصمة، أصبحت إيران تحد المملكة من جهاتها الثلاث... الربيع العربي تآكل وخمدت جذوته، ولم يعد يشكل ذاك التحدي أو التهديد الذي يحسب له ألف حساب، تنامى خطر "داعش" والإرهاب في المنطقة عموماً، لكن التمدد الإيراني المتسارع، عاد ليحتل صدارة سلم الأولويات السعودية/بعض الخليج... فلا بد والحالة كهذه لعقارب الساعة من أن تعود إلى الوراء... لا بد من جبهة خليجية موحدة في مواجهة الطوفان الإيراني الزاحف على عدة جبهات... حصلت المصالحة مع قطر، ولم تعد مشروطة أبداً بإتمام المصالحة القطرية – المصرية، فمصر ذاتها، لم تعد من ضمن الدائرة الأولى من دوائر الأمن الخليجي، لكنها بالقطع، لم تغادر الدائرة الثانية ولم تبتعد عنها.

قبل الربيع العربي، كانت تركيا فرس رهان عرب الاعتدال، وحجر زاوية في الحسابات السعودية – الخليجية، لمواجهة نفوذ إيران المتزايد... لكن السيد أردوغان ذهب بعيداً في مواقفه ضد إسرائيل، وبصورة محرجة لبعض العرب و"مزايد" عليهم... ولم تنخرط أنقرة في حرب على إيران كما كان مأمولاً، بل ذهبت لتوسيع دوائر تعاونهما الثنائي مع طهران، وبدل أن تكون سيفاً مشهراً في وجه برنامجها النووي، فضلت لعب دور الوسيط بين الجمهورية الإسلامية ومجموعة "5 +1"... هذا لم يعجب قادة الاعتدال العربي، وتراجعت مكانة تركيا في حساباتهم شيئاً فشيئاً.

إلى أن بلغت علاقات تركيا مع معسكر الاعتدال العربي (الخليجي أساساً) ذروة التأزم والتأزيم، عندما احتضنت أنقرة جماعة الإخوان المسلمين في سياقات الربيع العربي، وحملت بشدة على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدا حينها أن العلاقات بين الجانبين قد دخلت مرحلة "الحرب الباردة" والتأزم الذي لا شفاء منه... ودخلت علاقات هذه الدول مع تركيا مرحلة التراشق الإعلامي وسحب الاستثمارات وتغيير وجهة السياحة وغير ذلك مما يمكن للمرء أن يتخيله.

لكن عقارب الساعة تأبى إلا أن تعود للوراء مرة ثانية... مصر، بعد ثورتين، لم تغادر غرفة الإنعاش بعد، وهي ما زالت "رجل المنطقة العربية المريض"، والأهم أنها لا تتفق مع السعودية ودول خليجية أخرى على استعداء "إيران أولاً"... بالنسبة للقاهرة، الإرهاب والإخوان يتربعان على رأس قائمة التهديدات... مرة أخرى تعود دول هذا المحور إلى "تدوير الزوايا" الحادة في نظرتها للإخوان، المعادون مذهبياً لإيران وجماعاتها، وهذا فتح الباب تلقائياً لاستعادة دفء العلاقات داخل مجموعة التعاون الخليجي من جهة، وبين هذه المجموعة وتركيا من جهة ثانية على أمل مرة أخرى، أن تلعب أنقرة دور "المعادل السني الموضوعي" لثقل طهران الشيعي الكاسح، حيث ينعقد الرهان على خلافات أنقرة مع طهران حول سوريا والعراق وغيرها من الملفات.

الأرجح أن تركيا لن تتقدم على مصر في سلم التحالفات السعودية الخليجية ودوائر أولوياته... لكن المؤكد أن ثقل تركيا ومكانتها لدى هذه الأطراف سوف يتعاظمان... وفي المقابل، فإن ما سبق وأن وصفناه بـ "شهر العسل" السعودي – المصري، يبدو أنه انقضى، ولم تعد المصالحة مع مصر، أو تغيير المواقف من نظامها، شرطاً لاستعادة وحدة دول الخليج، أو متطلباً من متطلبات العلاقات السعودية مع دول الجوار القريب أو البعيد... تركيا تربح جراء هذه التطورات، ومصر تخسر، لكن الخسارة هنا والربح هناك، لا يندرجان في الإطار الاستراتيجي بعيد المدى، وإنما في الحدود التكتيكية، إلى أن يطرأ ما ليس في حسبان أهل هذه المنطقة من تطورات ومفاجآت، عندها قد تعود عقارب الساعة لممارسة هوايتها في العودة إلى الوراء مجدداً.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق