في الشورجة، اكبر الاسواق التجارية في العاصمة العراقية بغداد، واكبرها قاطبة في العراق، وحين تسمع كلمة استاذ فانها تعني الحمار تحديدا، دون اضافات او فذلكات.
لا يبعد سوق الشورجة كثيرا عن ساحة معروف الرصافي، وهو شاعر كبير ومعروف، الا لدى اصحاب البسطيات وعربات النقل الذين يتركونها تحت تمثاله بانتظار زبون لنقل بضائعه.
سوق الشورجة، وساحة الرصافي لا تبعد وخاصة الثانية الا امتارا قليلة عن شارع المتنبي، وهو شارع الكتاب والثقافة والمثقفين.
رغم الامتار القليلة، الا انها وحسب راي الكاتب يمكن ان تكون سنين ضوئية تفصل المثقف عن مجتمعه، او تنفصل بوظيفته التغييرية عن هذا المجتمع.. هل للمثقف مثل تلك الوظيفة، وهو يقطع تلك المسافة من الشورجة مرورا بالرصافي وانتهاءا بالمتنبي، وهو يرى كل تلك الاختلالات الطافرة من الظلم وعدم العدالة والنهب والفساد والخراب، ام انه لا يراها وهو متجه الى صومعته الاثيرة، بسطيات الكتب، وما تحتويه من الدلالات الابستمولوجية في قصائد الشاعر فلان، او انطولوجيا ما بعد الحداثة في قصص الكاتب علان، او انه يتمسك بوضع نظارته الشمسية على عيونه كي لايرى حجم الفجيعة فوق شوارع تلك المسافة، التي تختزن الكثير من التواريخ والاحداث، والتي شكل اسلافه من السابقين ملامحها الثقافية؟.
كثيرا ما يطرح السؤال عن دور الثقافة والمثقف في تغيير مجتمعه، وهو الذي ساهم في تشكيل وتبلور هذه الثقافة، لكنه حين ينتبه ويقارن وضعه بمجتمعات اخرى، يشعر بالحاجة الى الثورة على تلك الثقافة التي تسيد مشهدها واصبح احد فرسانها. لكن الفشل دائما من نصيب هذا المثقف.
يرى كثيرون من المهتمين بالشان الثقافي، ان هذا المثقف كان جزءا من حجر بناء ثقافة السلطة في بلده، واتكأ عليه الحكام كثيرا في الترويج لشرعية سلطاتهم، ظنا من هذا المثقف أنه يبني مجتمع العدالة والحرية، خاصة بعد قيام انظمة حكم بعد الاستقلال حملت مثل تلك الشعارات.
كان المثقف جزءا من منظومة الحزب والسلطة، يضيف باحث اخر، تشكل في ظلها خاصة في فترة الستينات، لينسلخ عنها لاحقا، وعند البحث والتدقيق في المنظومات الفكرية لتلك الاحزاب، نجد أن أغلبها هي منظومات فكرية شمولية لاغية للآخر، حيث كانت كلها تستلهم النموذج السوفياتي لمفهوم الحزب، الذي يختصر في طليعة ثورية أو نخبة أو مجلس شورى، يفكر بدلا من الجماهير ويحكم باسمها.
لا وجود للمثقف النقدي في مجتمعاتنا، لانه مثقف يتمرد على المألوف، العادي... وهو مشاكس، متمرد على كل السلطات، ومستقل، ولكنه غير حيادي لأنه منحاز الى جمهور الفقراء والمهمشين ويعمل على نشر قيم التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، على عكس المثقف التقني الذي يجرّد المعرفة من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي. فتتحول المعرفة الى نسق مغلق (أي المعرفة من أجل المعرفة) فتنتشر ثقافة اللاجدوى، العبث، اللامعقول، النخبوية والفردانية، وتكريس القطيعة مع الجمهور الذي يتحول عند التقني الى ضرورة منطقية، ذهنية، مجردة، فهو على عكس المثقف النقدي الذي يدافع عن الفقراء بناء على عاطفة مليئة بالحب والاحترام والثقة بقدرات هذا الجمهور. يضيف باحث اخر.
حول المثقف النقدي بتمرده على المالوف والعادي، والمتمرد على السلطات، والمنحاز الى الفقراء والمهمشين، والذي ينشر قيم التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، هنا يبرز سؤال هام هو: من هم المثقّفون؟ يصنفهم احد الكتاب العرب بالشكل التالي:
المثقف الضرورة: وهو ذاك المثقف الذي يتبدل بتبدل الأحوال، يسير دائماً مع التيار، ويوجه ملكاته كلّها بحسب مصلحته الخاصة.
المثقف الحزبي: عندما ينتسب المثقف إلى حزب سياسي أو اجتماعي، لا يفقد المثقف صدقيته لكنه يفقد استقلالية كلمته وموقفه، وهو مضطر دائماً إلى الاصطفاف مع حزبه في مواقفه وتصريحاته.
المثقف المهاجر: واحد من كثر ممن وجدوا أنفسهم أمام جدار أصم في أوطانهم، وانفتحت لأفكارهم آفاق أوسع في المهجر فحملوا دفاترهم وأقلامهم إلى أماكن أملوا في أنها فضاء واسع، ومصدر حرية لكلماتهم، وساحة رحبة لرسم تصوّراتهم المستقبلية عن مجتمعاتهم وثقافتهم.
المثقف العاجي: هو مثقف ممتلئ بالمعلومات لكنه يعيش في برجه العاجي بعيداً عن مجتمعه وهمومه في بيئة خاصة يرسم بنفسه ويضع لها الحدود والأفق.
المثقف المقاول: هذا المثقف دوره البناء والتنظير الفكري على كل ما يحيط به، مثقف يأتي بأفكاره من الخارج ويعمل على جعلها تتناسب مع البيئة التي يعيش فيها، ويسوّقها ويروّج لها، ويسعى إلى استنساخ عدد من المثقفين مثله حتى يكونوا مرجعية ثقافية كبيرة ومؤثرة تساعد على استمرار هذا النمط من الأفكار والمفكرين.
المثقف الانتحاري: نوع من المثقفين يرفض الواقع الذي يوجد فيه، فيؤثر الانسحاب والتقوقع على الذات، بدلاً من الاستسلام للتأثيرات والضغوط الخارجية والمغريات التي تعرض عليه.
المثقف الشاعري: شاعر بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حالم، يحب الأطفال، ويعشق الزهور، مغرم بالشموع، يغرق في عالم الأدب، يتنقل من تقاليد الشوارع الخلفية إلى صالونات الفكر والشعر.
المثقف القاضي: مثقف كل العصور والدهور، حاكم في كل القضايا، وناقد في كل العلوم والفنون بما في ذلك فنون النقد والكيمياء والطاقة والكواكب والجينات والعقائد والأرحام والطبخ… إلخ. وقد تتحول كل الأمكنة إلى قاعة محكمة الرصيف، الباص، المحطة ، الحديقة والشارع .
المثقف الدهّان: يقال عنه في اللغة العامية مسّاح جوخ ، مدّاح للآخرين، مستعد للتنازل في أية لحظة عن كل قطرات الحياء لأجل الربح والجاه، والشهرة والمركز المرموق، اذا لم يجد سلطة يمدحها، يمدح رئيس التحرير، صاحب الدكان المجاور، الممرضة في المشفى، شرطي المرور، ولا يقدم المديح بدون تبرير فلسفي، نقدي، علمي، عقائدي، وثقافي… إلخ.
المثقف النقدي: من ظلّ وفيّاً لوظيفته النقدية من دون أن ينحاز إلى فئة أو حزب، واستمر مصرّاً على ضرورة تغيير الواقع، ومؤمناً بأن حالة الوعي ليست صلبة ومتحجّرة، بل في حالة حراك وترقٍّ دائمين. فكل وعي يولّد وعياً جديداً، وكل واقع راهن يولّد واقعاً جديداً أفضل.
ويمكن ان اضيف الى تلك الاصناف صنفا اخر من المثقفين يتسيد الساحة الثقافية في العراق وغيره من البلدان العربية، ويكثر من الظهور في القنوات الفضائية وبرامجها الحوارية، وفي الملتقيات والندوات الثقافية وحتى المتخصصة، وهو المثقف النقلي، الذي تنحصر وظيفته في تداول مايسمعه في نشرات الاخبار، او مايسمعه من مثقفين يشبهونه على قنوات اخرى، دون مساءلة او تحليل لما يسمعه او يقوم بنقله.
اضف تعليق