الإعلان عن انتهاء عملية "درع الفرات" لا يعني أن المدافع التركية سوف تصمت في سوريا، والأهم، أن القول بأنها حققت أهدافها، لا يعني أنها نجحت في ذلك حقاً... وإذا كان الإعلان عن نهاية العملية قد انطوى على مفاجئة للمراقبين، فإن التأكيد على نجاحها في تحقيق أهدافها، يأتي من باب "تحصيل الحاصل" أو "لزوم ما لا يلزم"، إذ من كان يتوقع أن يقدم الرئيس التركي على إعلان فشل العملية على مبعدة أسابيع من الاستفتاء على الدستور، الذي ينتظره بفارغ الصبر، وخاض من أجله حروباً "دونكيشوتية" من أجل ضمان فوزه بموقع الرئيس مطلق الصلاحيات.
على أية حال، يبدو أن الإعلان رسمياً عن انتهاء عملية "درع الفرات" قد جاء مرتبطاً بالاستفتاء واستحقاقاته، على أمل أن ينجح إعلان كهذا في تهدئة روع الأتراك، القلقين من استمرار تورط بلادهم المباشر في مستنقع الحروب الجارية في سوريا وعليها، وما فتحه من معارك جانبية، وعلى مختلف الجبهات، بدءاً بموسكو وطهران وحلفائهما، مروراً بالقارة العجوز، وليس انتهاء بالولايات المتحدة، التي اختارت اكراد سوريا من دون تردد بعد أن وضعها أردوغان نفسه، بين خيارين لا ثالث لهما: تركيا، الدولة الكبيرة، أو وحدات الحماية المصنفة إرهابية في القاموس التركي.
أما "نجاح العملية في تحقيق أهدافها"، فتلكم حكاية أخرى، إذ بعد "تحرير الباب" من أيدي الدواعش، وجدت قوات "الدرع" نفسها في حالة "بطالة" تامة، بعد أن أوقفت كل من موسكو وواشنطن، زحفها باتجاه منبج والرقة، وهما المدينتان السوريتان اللتان توعد أردوغان بأن تكون هدفاً تالياً لعملية "درع الفرات" بعد استرداد الباب، لكن من الواضح أن ضجيج التهديدات التركية الذي يصم الآذان، قد ذهب جفاء، ولم يبق من الفرات إلا "غضبه" الذي حلّ بمطار الطبقة في الطريق إلى الرقة، إما "درعه" فقد أعلن عن نهاية صفحته رسمياً بالأمس.
لا يعني ذلك أن التدخل العسكري التركي في سوريا سيتوقف، أو أن مدافع السلطان ستصمت، ولا يجوز بحال التقليل من المكاسب التي حققتها "درع الفرات"... لكن الإعلان التركي المفاجئ يذكرنا بإعلان مفاجئ آخر، عن انتهاء "عاصفة الحزم" وبدء عملية "إعادة الأمل" في اليمن، مع أن أعنف المعارك وأشدها ضراوة ودموية، وأكبر الخسائر في صفوف الشعب اليمني، قد وقعت بعد انتهاء "عاصفة الحزم"، ومن دون أن تنجح في تحقيق أهدافها، كما هو حال "درع الفرات" تماماً.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فثمة أوجه للشبه والاختلاف بين عمليتي "درع الفرات" و"عاصفة الحزم"، وجه الاختلاف الرئيس يتمثل في البون الشاسع في حجم ونوعية العمليتين من حيث كثافة القوات والسلاح واتساع رقعة القتال وتعدد محوره وجبهاته، "درع الفرات" من هذه الناحية، لا تقارن بـ "عاصفة الحزم"... لكن العمليتين كلتاهما اندلعتا ذوداً عن الخاصرة الضعيفة لكل من تركيا والسعودية، وكلتاهما اختلطت فيه الحرب والسياسة الخارجية باعتبارات الداخل وحسابات السلطة والحكم، وكلتاهما انتهى رسمياً من دون أن تتوقفا عملياً، وكلتاهما تحولتا إلى منزلق أو مستنقع للقوى الخارجية، وكلتاهما كرستا القناعة الإقليمية والدولية، ومن دون قصد، بتعذر الحسم العسكري، وإلزامية البحث عن حلول سياسية للأزمتين، بوصفها الممر الإجباري لوقف عمليات النحر والانتحار، على الرغم من الجهود الهائلة المبذولة لجعل كلا الحربين، نوعاً من "الحروب المنسيّة".
لا تكف الخارجية التركية عن استدعاء السفراء لإبلاغهم رسائل الاحتجاج والاستنكار لهذه الفعلة أو تلك لدولهم وحكوماتهم، لكأن تركيا في عهد "السلطان" باتت في حرب كونية مع العالم بأسره... وهي تأمل أن يفضي إعلانها المذكور، إلى تهدئة بعض جبهات الحرب الديبلوماسية المفتوحة معها وعليها، فما من دولة في الإقليم، بمن فيها إيران، الدولة الموصوفة بالتدخلية والتوسعية، تحظى بـ "شرف" الانخراط في حروب كلامية ومناوشات ديبلوماسية مع الجميع ومن دون هوادة.
وإن قدّر لأردوغان أن يحظى بمراده في استفتاء في السادس عشر من أبريل/نيسان المقبل، فإن من المنتظر أن نشهد مزيداً من التهدئة على جبهات القتال السياسي والديبلوماسي، والذي اندلع بضراوة مؤخراً، بهدف شد "العصب القومي" التركي، وضمان تدفق مزيد من الأصوات المؤيدة والداعمة في صناديق الاقتراع، من قبل الأتراك في بلادهم، وفي دنيا المهاجر والمغتربات، ومن دون أن يعني ذلك أن "السلطان" سيترجل عن جواده في سوريا والعراق، فتلكم مسألة أكبر من أن تتوقف بعد الانتهاء من عد وفرز النتائج.
اضف تعليق