قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ))، (سورة الواقعة، الآية:10-11).
كونه يجسد النجاح بأجمل أشكاله، يرغب الجميع بأن يكونوا من السابقين في تحقيق المكاسب المادية او الانجازات العلمية، وايضاً؛ الى المكرمات والفضائل، وتبقى هذه الرغبة تراود النفوس، ولا تجد مصداقيتها على أرض الواقع ما لم تتوفر شروطها التي تكون دائماً مقرونة بالجهد المضاعف والتضحية ومواجهة مختلف التحديات، ولذا كان السابقون، متميزون في أعمال مبدعة عجز الآخرون عن تحقيقها، او الوصول الى مراتب أعيت الأخرين؛ في العلم أو التجارة أو السياسة وغيرها.
الهدف – الدوافع -النتائج
الناجحون في مضمار السباق بالحياة، إنما وصلوا الى ما وصلوا اليه بفضل سعة تطلعاتهم وعظيم اهدافهم وغاياتهم، فالذين باتوا أمثلة مضيئة للبشرية في الإبداع والاكتشافات العلمية لان هذه الاكتشافات فتحت آفاقاً جديدة في حياة الناس والاجيال، ليس أقلها الحصول على اكبر قدر من الخدمة والرفاهية مع جهد أقل، حتى ان ابناء القرن الحالي باتوا ينظرون بإشفاق الى من سلفهم في القرن الماضي (العشرين)، كما كان الشعور المماثل لابناء القرن العشرين إزاء الى ابناء القرن التاسع عشر او قبله.
ولذا نجد القرآن الكريم يعطي للسبق مداً بعيداً جداً، ربما من الصعب إدراكه، وهو الوصول الى القرب من الله –تعالى- بمعنى؛ ان الذي يكون قريباً من الله –تعالى- في تقواه وورعه وسائر الصفات الروحية، فانه يكون – بالضرورة- قريباً من الفضائل والمكارم، بل وتكون أعماله الرائدة منبعثة من القيم الانسانية والاخلاقية، وحتى أن بإمكانه ملامسة جزاء سبقه في الدنيا قبل الآخرة.
أما اذا كان الهدف؛ تحقيق مكاسب مادية محدودة، فمن الطبيعي أن تكون الدوافع من سنخها؛ محدودة ايضاً ببعض النزعات والرغبات النفسية الخاصة بشخصية الفرد الطامح لأن يتميز بين اقرانه في المجتمع بأن يكون الأعلم والأفهم والأكثر مالاً وجاهاً، ولهذا ايضاً نصيبه مما يبذل من جهد في مضمار السبق، فلا تخرج انجازاته وبطولاته عن دائرة بيته وسيارته ومكان عمله وعنوانه الوظيفي او التجاري.
المديات الواسعة والتحديات الكبيرة
من الطبيعي أن تعترض الأمواج العاتية من يخوض لجج البحار والمحيطات، بينما يكون مرتاح البال من يستريح على ظهر قارب في نهر ساكن وجميل؛ وهكذا كانت سيرة المكتشفين من عباقرة العلم وايضاً القادة الأفذاذ الذي قادوا الأمم والشعوب نحو تغييرات جذرية أرسوا على أساسها أنظمة حياة جديدة، وهذا لن يأتي بالمجان او بضربة حظ، بقدر ما يكون محفوفاً بالمخاطر والتحديات، ولطالما واجه علماء الطب والفلك والفيزياء والكيمياء، وايضا؛ علماء الدين، تحديات جمّة وضغوطات نفسية ومادية وحتى سياسية في طريقهم للسباق مع الزمن والتوصل الى الحقائق العلمية التي ننعم بها اليوم، ولم نقرأ من سابق الى كشف علمي أن الابواب الواسعة فتحت أمامه والازهار نُثرت بين قدميه وحاز على تصفيق الجماهير وثناء الاصدقاء والمقربين.
ولكن؛ كيف السبيل الى هذا النوع من التحدي؟ بل كيف تمكّن أمثال اديسون وباستور ونيوتن وانشتاين وامثالهم من تحقيق السبق الكبير على جميع أقرانهم من طلبة العلم آنذاك، فخلد التاريخ اسمائهم بينما طوى الآخرين النسيان؟
إنها الشجاعة في كل شيء، وتكون البداية من نفس الإنسان التي بين جنبيه، فهي التي يجب ان ترى شجاعة الانسان وإقدامه وعزيمته، قبل الاطراف الخارجية الاخرى، من خلال يقظة العقل والوجدان، فتسمو النفس بهكذا انسان وتجعله رمزاً للخير والفضيلة والعطاء.
ومن هذه المرقاة، يكون من السهل مواجهة التحديات الخارجية الاخرى او الضغوط من محيط المجتمع والحكام وغيرهم، لانهم ينطلقون من قواعد راسخة وبخطوات واثقة، وإذا حصل العكس؛ بأن ينطلق من الخارج ومن الواقع الذي يعيشه، فانه لا يلبث أن يجهد نفسه بمتاهات لا تنتهي من التناقضات والتنوعات والمصالح المتقاطعة في المجتمع والدولة، فيضيع بين هذا وذاك، وتضيع جهوده العلمية ورصيده الفكري والثقافي دون أن يسجل للتاريخ والاجيال شيء يذكر.
وهذا تحديداً ما جعل علماء الغرب ومنذ القرن الخامس عشر، يتحدون بسبقهم العلمي وابداعهم وفكرهم، سلطات الحكم التي كانت تتمثل تارةً في الكنيسة وتارةً اخرى في الامبراطور او الملك ومن يدور في فلكهم، فتحملوا من اجل ذلك؛ القمع والتشكيك القتل المعنوي (التسقيط)، كما حصل للعالم الفلكي الايطالي غاليلو غاليلي، عندما تعرض لهجمة شعواء لتأييده نظرية مركزية الشمس ودوران الارض حولها، وهي النظرية التي تعود الى كوبرنيكوس، وهو ما رأته الكنيسة تعارضاً مع مبادئها الدينية وما جاء في الكتاب المقدس، فادانته بـ "الهرطقة" وحكمت عليه بالسجن عام 1632، ثم اطلقوا سراحه خوف الفتنة، ثم عادت نفس هذه الكنيسة وبعد ثلاثة قرون، لتعتذر الى غاليلو وتعيد اليه الاعتبار وأنه عالم فلكي فذّ، باعتراف رسمي امام العالم من لسان البابا يوحنا بولس الثاني عام 1992! فهو مات في منفاه الاختياري وفي احدى زوايا بيته مبتعداً عن الناس، محتفظاً بآرائه العلمية السديدة التي أطاحت بآراء أرسطو حول الحركة، واعتمدتها الكنيسة رغم ان المسيحية ظهرت في وقت لاحق على المدارس الفلسفية اليونانية.
بينما نلاحظ بعض ممن ينسبون الى العلم في العراق، حسبوا أنهم يسبقون اقرانهم من العلماء في المنطقة بل والعالم عندما سخروا علمهم ليس في التنمية والعمران والتقدم الاقتصادي، وإنما لخدمة زعيم مثل صدام حسين، لانتاج اسلحة غريبة في فتكها أطلق عليها "الدمار الشامل"، وأطلق عليها صدام بنفسه، مع غير قليل من التبجّح بأنها "الكيمياوي المزودج"!! ونفس هذا الطاغية تسبب في إبادة الكثير من العلماء وأجبر آخرين على الهجرة الى الخارج عندما رفضوا الطاعة والولاء المطلق له.
وإذن؛ نحن بحاجة الى تجاوز الواقع الفاسد؛ سواءً في مظاهره الاجتماعية او السياسية، والتفكير بجديد يكون قادراً على إصلاح هذا الواقع، وهذا تحديداً بحاجة الى قوة نفس وصلابة في الإرادة والعزيمة، وإلا بالامكان ملاحظة العديد من حالات السبق لمبادرات مثيرة للمشاعر الانسانية او حتى مغرية للحكام وأهل السلطة، بيد أنها لن تكون سوى استنساخ للواقع المرير الذي يعيشه الناس، والمثال الأقرب؛ العراق، فما هو أشدّ مرارة وأمضّ حالاً؛ مشاعر اليأس والخيبة من الحاضر والمستقبل، وغياب مفاهيم حيوية مثل الشكر والعرفان وايضاً غياب بعض القيم الاخلاقية والانسانية، بينما نلاحظ السبق احياناً في إظهار المزيد من مصاديق الخيبة واليأس والانحطاط من خلال وسائل عدّة؛ من قنوات فضائية او وسائل الاتصال الاجتماعي.
وربما التوقف عند هذه المرقاة في مضمار السبق، يضمن الكثير من راحة البال والطمأنينة لمن يمارس الحكم ويوغل في الفساد والنهب والفتك لان السباق الذي يرونه من شرفات قصورهم لايصل اليهم، إنما هو في الشارع والمدرسة والجامعة ووسائل الاعلام والاسواق وفي جميع مفاصل المجتمع الذي يجد أن قوة نشاط افراده وحيويتهم في السباق تزيد في تمزقه ومعاناته لا في انتشاله من واقعه الفاسد.
اضف تعليق