الشباب؛ هذه القوة الانسانية، مثل سائر عناصر القوى في الحياة، يمكن ان تنصرف الى جانب الخير كما يمكن ان تنصرف الى جانب الشر، إنها مادة خام كالمال والعلم، تتأثر بطريقة الاستخدام والتوظيف، فالبلاد المتقدمة نرى الشباب في مشاريع البناء والتنمية والانتاج، بينما في بلاد أخرى نجدهم عبارة عن وقود للحروب الاهلية، وربما نجدهم ايضاً متناثرين على الأرصفة والطرقات والمقاهي، بين عاطل ومدمن ومتسكع يبحث عن سبب لوجوده في الحياة.
من الناحية الاقتصادية، يمثل الشباب ثروة وطنية متميزة عن سائر انواع الثروات والقدرات الموجودة، لان عند هذه الشريحة تلتقي مصادر قوة مثل المال والعلم والعمق الفكري والحضاري، فتتشكل قوة عارمة لا تضاهى بإمكانها فعل المستحيلات، وهذا يجعل البلاد الحريصة على مرتبها في التقدم الصناعي والعلمي، لأن تحتفظ بالنسبة المعتدلة لابناء هذه الشريحة، وإن اصابها ضمور في عدد الشباب، تلجأ فوراً الى الأيدي العاملة من الخارج لعدم انشغال شبابهم عن الدراسة الاكاديمية والبحث العلمي.
ومن المثير حقاً؛ أن نجد ارتقاع نسبة شريحة الشباب بين السكان في البلاد الفقيرة والمتخلفة والتي تعيش في نفس الوقت على الحروب والازمات، بينما نلاحظ التراجع في البلاد الغربية المتقدمة، ومن جملة الاحصائيات حول ذلك، ما نشره راديو اوربا الحرة من رسم تخطيطي للجغرافيا العالمية، في اليوم العالمي للسكان، بينت فيه أن نسبة السكان الشباب تتجه نحو الضمور في اميركا والعديد من الدول الاوربية والآسيوية المتقدمة، فيما تتضخم النسبة في بلدان أسيوية اخرى وافريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وجاء في الرسم؛ أن خمسين بالمئة من سكان النيجر تحت سن ال14 عاماً، في حين انهم يمثلون فقط 13 في المئة من سكان اليابان.
أما في العراق فانه هو الآخر يحظى بنسبة جيدة من هذه القوة الفاعلة وفق مسح أعدته وزارة التخطيط لسوق العمل للقطاعين العام والخاص، وجاءت النتيجة أن نسبة سكان العراق في سن العمل بين 15-64 سنة بلغت 58بالمئة، مما يؤكد كون العراق من المجتمعات الشابة في العالم والمحظية بفرص عالية للعمل والانتاج، علماً أن هذا الرقم يعود الى تاريخ 2014.
وربما نجد ارقام قريبة على العراق في بلدان اخرى في الشرق الاوسط بفضل الثقافة الاجتماعية المتميزة والمشجعة على الزواج والانجاب، بيد أن هذه الثروة والمنحة الإلهية العظيمة مهددة بالفناء بسبب مغامرات سياسية ومصالح متقاطعة بين بعض الانظمة الحاكمة والقوى الكبرى في العالم، مما يستدعي تحصين هذه الشريحة من التهديدات المحتملة، كما تحصّن الاوارق المالية وسبائك الذهب والمجوهرات في اماكن منيعة لا يصلها أحد.
هنالك جملة من اجراءات التحصين والحماية، نشير الى واحدة منها؛ الشعور بالمسؤولية الجماعية والتسامي على الذاتية والمصلحة الخاصة مهما كانت الرغبة الى ذلك شديدة من شريحة الشباب والتي تتميز بهذه النزعة حيث ترغب الغالبية العظمى بتحقيق الذات من بناء للشخصية والوصول الى اهداف ورغبات معينة، وربما يكون قسم كبير من ذلك مشروعاً ولابد منه، بيد أن وجود هذه الثقافة في نفوس الشباب وهو يرومون لبناء شخصيتهم وذواتهم، يعني وجود شباب في المجتمع والامة بكامل قواه العضلية والذهنية وسلامته النفسية، مع قدرة فكرية عالية لتقييم الواقع والتطلّع الى آفاق المستقبل.
إن الابداع والتفكير لايجاد الأحسن، يقطع الطريق على المغامرين سياسياً والباحثين عن المكاسب والمصالح، لان لا طاقة لهم على الوعي والثقافة العميقة والفكر الأصيل، إنما يبحثون عن الجماد والصامت والسهل التطويع.
لنأت بمثال حيّ من صميم واقعنا؛ فقبل فترة قام بعض الشباب بتسجيل مقطع تمثيلي ضمن ما يُعرف بالكاميرا الخفية، وفي مدينة كربلاء المقدسة، يظهر فيه شاب يفترش سجادته على الرصيف في منطقة تجارية معروفة ويؤدي صلاته على طريقة أهل السنة، ثم يأتي آخر ويعترض عليه محاولاً منعه من أداءه الصلاة كونه من الطائفة السنية، ثم يتحدث بصوت عالٍ يسمعه المارة بأنه من مكون تسبب لهم بالأذى والمعاناة خلال الحرب مع الارهاب.
هذا المقطع والعمل الفني الجميل، و الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، جاء كمحاولة للتأكيد على أن العمليات العسكرية الجارية لتحرير الموصل وسائر المدن السنية، إنما تستهدف الجماعات الارهابية ومنها داعش، وليس ابناء المكون السنّي، مع الاشارة الى المشتركات العديدة في الدين والعقيدة، ولكن؛ لو كان ظهور هكذا أعمال فنية –مثلاً- في أوقات بعيدة عن الأزمة السياسية واندلاع المعارك أو "وقوع السيف" كان أجدى وأكثر تأثيراً، بدلاً من أن يفكر كل شاب مبدع ومتعلّم بمدينته وابناء عشيرته وجماعته.
وهكذا الامر ينسحب على سائر بلادنا التي تعيش الازمات السياسية والامنية وتجد نفسها مضطرة لأن تدفع بخيرة شبابها أملاً في التخلص من هذه الازمات دون جدوى، لان هذه الازمات المختلقة والمغامرات وجدت ثغرتها في جسد الامة وتمكنت من امتصاص القوة الهائلة وتحويلها الى وقود وشحن يبقي على تلك الازمات فترة أطول خدمة لمصالح خاصة.
اضف تعليق