وضع الرأس الشريف بين يدي عبيد الله بن زياد، والصالة تغصّ بالحضور؛ من قادة جيش عمر بن سعد، و شيوخ قبائل وصحابة محدثين، فيما كانت أسرة الامام الحسين (المسبية) في إحدى الزوايا، فبدأ والي يزيد على الكوفة يستعرض انتصاره وقدرته من خلال سوط بيده يضرب به ثغر الامام، وكان الى جانبه إثنان من أبرز الصحابة القلائل المتبقين من عهد رسول الله، وهما؛ زيد بن أرقم، وأنس بن مالك. بإزاء هذا الموقف لم يتكلم أنس بشيء، بينما انتفض زيد مطالباً ابن زياد بأن "ارفع سوطك عن هاتين الشفتين، فوالله الذي لا أله غيره رأيت شفة رسول الله بما أحصي عدداً وهو يقبلهما.."، ثم انتحب باكياً.
لما رأي ابن زياد هذا التحول في زيد بن أرقم، قال له: "لولا أنك شيخ كبير و خَرِفت لضربت عنقك".
التهديد بالموت لصحابي طاعن في السن، وهو امام رأس ابن بنت رسول الله، بلور الرؤية لديه واتخذ الموقف المناسب في اللحظة المناسبة، فتنحّى عن ابن زياد، وتوجه الى جموع الحاضرين من أهل الكوفة بالقول: "يا أهل الكوفة...! أنت العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، والله ليقتلنّ خياركم...".
الفضاءات والفرص
المطالبة بحرية الرأي والعقيدة شيء، وخوض التجربة شيء آخر، فمن الذي لا يحب ممارسة حرية التعبير عن رأيه وعقيدته وموقفه من الاوضاع المحيطة به؟ وهل القضية بهذه السهولة؟، لحرية الرأي والعقيدة والفكر فضاءات خاصة، مثل الصحافة والاعلام، واشكال التجمعات الجماهيرية، من؛ تظاهرات واعتصامات واضرابات، وقد اثبتت التجارب فاعلية هذه الفضاءات المدعومة سياسياً من احزاب وتنظيمات سياسية وأخرى من المجتمع المدني، بما يحقق للجماهير بعض المطالب والاهداف.
ونظراً لسياسية النشوء، فان فضاءات هذه الحرية تتجه قهراً نحو المصالح السياسية ضمن الأطر الحزبية او الفئوية او حتى الشخصية، فتتحول هذه الحرية الى شعار ثم سلاح في ساحة الصراع السياسي على السلطة، كما حصل الشيء نفسه، عندما مُلئت آذان الفلاحين والعمال والطبقة الفقيرة بالشعارات الاشتراكية والدفاع عن "الكادحين" والمحرومين، فلم يزد هؤلاء إلا مزيداً من الحرمان والفقر.
ان قيمة الحرية تفيد الانسان الفرد – قبل المجتمع- في تمكينه من القدرة على التعبير عن رأيه وعقيدته، ومن ثمّ فان التقاء الحرية كقيمة مقدسة، مع القدرة على التعبير عن الرأي، سينتج لدينا التنظيمات السياسية الناجحة كونها وليدة شرعية للوعي الجماهيري.
وهذا ما سعى من أجله أسرة الامام الحسين، عليهم السلام، متمثلاً بالدرجة الاولى بالامام زين العابدين، وعمته العقيلة زينب،عليهما السلام، خلال مسيرة السبي من كربلاء الى الكوفة، ومنها الى الشام، وما تخلل الطريق من محطات ومواقف وأحداث شكلت بمجملها فضاءات وفرص لافراد المجتمع لأن يجربوا حقهم في ممارسة الحرية في التعبير عما يضمرونه من رؤى وافكار ومشاعر تأخذ بايديهم الى حيث الخروج من نفق الاستعباد والاستبداد.
وعلى هذا الطريق يسير اليوم الزائرون من كل انحاء العالم بالسير مشياً على الاقدام صوب كربلاء الحسين لزيارته، عليه السلام، في اربعينتيه، فالمسافات البعيدة التي يقطعونها توفر الفضاءات المطلوبة بأحسن ما يكون لحرية التعبير عن تراكمات الشجون والآهات والمطالبات بما عجز عنه المعنيون بأمر الشعب والامة، من توفير امكانات النهضة والنمو في المجالات كافة.
ولطالما حاول البعض تحجيم ظاهرة المشي لزيارة الاربعين، على أنها مقتصرة على شريحة الفقراء الشاكين من الحرمان الى رمز كبير بعد فشل الجهات المختصة، بيد أن الحضور المتزايد في عرض المجتمع بمشاركة شرائح مختلفة، منها الاغنياء والعلماء وحتى من هم ليسوا من الشيعة اساساً، عزز الاعتقاد بقدرة هذه المسيرة المليونية، وتحديداً الاصرار على المشي لمسافات طويلة، على توفير تلك الفضاءات والمناخات المناسبة لحرية الرأي والعقيدة.
ولذا تكون كل اشكال الفساد والانحراف مهددة بالإصلاح او التغيير الشامل خلال هذه المسيرة الهادرة، لان المطالبة هنا ليست بدوافع سياسية ولا فئوية خاصة، إنما تعود الى جذور النهضة الحسينية متمثلة بهتاف الامام الحسين، عليه السلام: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي...".
ولعل هذا يفسّر سبب خوف نظام حزب البعث البائد من هذه الشعيرة الحسينية تحديداً، رغم محتواها الديني الواضح وعدم تضمينها لأية شعارات واهداف سياسية، بيد ان الشعارات لم تكن لتخيف صدام، بقدر تمكن الناس من التعبير عن رأيهم بكل حرية على طول الطريق الممتد الى كربلاء المقدسة، فان أغلق عليهم الطريق الرئيسية، توجهوا الى الطرق الفرعية والترابية بين بساتين النخيل.
وقد ورث الناس هذا الإصرار من آبائهم واجدادهم في العهود الماضية، عندما تحدوا كل المخاطر لزيارة مرقد الامام الحسين، عليهم السلام، من فرض رسوم باهظة وغرامات، ثم التهديد ببتر الايدي والأرجل، وحتى التهديد بالقتل، فكان كل ذلك، سهل يسير على أولئك الزائرين، فبذلوا المال وصبروا على العوق واستقبلوا الموت برحابة صدر، ليحصلوا على ما سلبه منهم الحاكمون من الحرية والكرامة ولم يجدونا في أي مكان آخر.
اضف تعليق