كثيرة هي النقاط الفكرية والثقافية التي تستوقف الشباب وتدغدغ اذهانهم ومشاعرهم لاستمالة قناعاتهم، فيما يشبه الى حد كبير "بازار" صاخب ومتلاطم بالافكار المتنوعة والمتعارضة في بعض الاحيان، وبدلاً من تسهيل الأمر عليهم لاختيار الأحسن والأصوب، يجد الشباب انفسهم، وعلى حين غرّة، مصابون بدوّار الافكار، الامر الذي يدفعهم الى التحرر والتحلل، ثم الانفراد بأنفسهم قليلاً، وربما الانطواء على الذات، علّهم يدركوا بما يجري حولهم بشكل صحيح.
ولمن يتابع أمر الشعائر الحسينية المتضمنة أشكال العزاء على مصاب الإمام الحسين، يلحظ تزايداً في أعداد الشباب المزدلفين في مواكب العزاء، بل والإصرار على أداء هذه الشعائر، من أبسطها، مثل خدمة الزائرين بالطعام والدواء والمسكن وغيرها، مروراً باللطم على الصدور وحضور مجالس الوعظ والذكر، وحتى أكثرها جرأة؛ وهي التطبير.
نقطة الدم هذه ليست مثل النقاط الخلافية الاخرى التي تصدّع الرؤوس، إنما تتميز برسالتها الانسانية المحضّة، فهي موجهة الى الجميع، إنها رسالة التضحية بالدم لتحقيق السعادة للانسان والبشرية، وهو ما جاءت به رسالات السماء، بيد أن المكونات النفسية للشباب تجعلهم ينجذبون بشدة أكثر من غيرهم نحو هذه النقطة الصارخة.
لقد ملّ الشباب النقاط الخلافية التي غلبت على نقاط الالتقاء، وربما غيبتها عن ساحة الفكر والثقافة، فعلى الصعيد السياسي، قال البعض بأولوية عن الثورة عن الطغيان والديكتاتورية، بينما قال آخرون: بالثورة على الذات وتقويم السلوك والاخلاق أولاً.
وعلى الصعيد الاجتماعي؛ قفزت فكرة الحداثة والعصرنة، وركب موجتها باحثين عن أدوار وذوات، فصعق المحافظون على التقاليد والأصالة مستشعرين الخطر، ومنذرين المجتمع والامة بخطأ ما يذهب اليه هؤلاء، وهكذا الأمر في عديد المسائل الخلافية السائرة في خط طويل لا ينتهي، فما هو الافضل؟ أن تكون متحمساً ومتفاعلاً، ثم تتهم بـ "التطرف"؟ أم تكون مهادناً ومسالماً لتحظى بلقب "الاعتدال"؟!.
إن هذه الشعيرة الحسينية او تلك، عبارة عن لحظات سريعة لكنها غاية في التأثير قياساً بساعات وأيام، بل وسنين من الجهود الثقافية المضنية؛ من محاضرات ومؤلفات وتجمعات وغيرها، في هذه اللحظات يكون الشاب أمام عالم فسيح بامكانه أن يضع نفسه في المكان المناسب بما يتطابق مع قدراته ليصوغ شخصيته بنفسه دون تدخل خارجي، ومن ثم ليحقق الأمل الكبير بأن يكون مثل زهير بن القين، ذلك البعيد عن الإمام الحسين، عليه السلام، قلباً وقالباً في وقت ما، ثم يكون من أقرب المقربين، وقائداً على ميسرة الجيش الحسيني. أو ربما يكون مثل وهب؛ ذلك الشاب المسيحي الذي تخلّى عن زوجته وأمه، وحتى؛ الحر، ذلك القائد العسكري في الجيش الأموي، ونحن إذ نذكر هذه الامثلة، كونها الأقرب الى واقعنا، فالشباب لدينا ليسوا من "العثمانيين البعيدين"، ولا هم من "المسيحيين"، وإلا هنالك نماذج سامية يحتجّ البعض بصعوبة الوصول اليها، مثل القاسم بن الامام الحسن المجتبى، او علي الأكبر ابن الامام الحسين، عليهم السلام.
فاذا شقّ هؤلاء طريق الايمان والحرية والكرامة بدمائهم، فان شباب اليوم يجدون من حقهم اقتفاء الدرب، بدمائهم وآلامهم ايضاً، علّهم يتمكنوا من تقرير مصيرهم بأنفسهم والإسهام في عملية التغيير والإصلاح، فيما يتعلق بذواتهم وايضاً ما يتعلق بمجتمعهم وأمتهم:
فرصة التغيير الذاتي
نسمع همساً هنا وهناك، عن أن بعض الشعائر الحسينية تمثل فرصة للتزكية لشباب قضوا أيام السنة في اللهو والميوعة وربما ارتكاب بعض الأخطاء، فيظهرون أمام الناس بملابس السواد والمشاركة الفاعلة في المواكب الخدمية ومراسيم العزاء، ويأخذ البعض عليهم أنهم يدخلون في مكان لا يليق بهم، وعليهم أولاً: الاعتراف بذنوبهم والاقرار بعدم العودة اليها وغير ذلك...!! بما يجعل النهضة الحسينية عبارة عن حجرة صغيرة مقتصرة على عدد من الاشخاص، وليست هي "سفينة نجاة".
ولكن كيف يتم هذا التغيير يا ترى؟
انه السؤال الذي حيّر علماء التربية وحتى علماء الدين، في الكيفية او السبيل الى صيغة واضحة تجذب شريحة الشباب تحديداً الى اتباع منهج تربوي صالح يجنب المجتمع مخاطر الانحراف الخلقي وانتشار المظاهر الشاذة والممارسات الخاطئة.
نعم؛ جرت – وما تزال- المحاولات المخلصة من لدن خطباء ومفكرين وباحثين في أمر التربية لنشر الفضيلة والاخلاق بين اوساط الشباب، وثمة قدراً يعتدّ به من ثمار هذه المحاولات مشهودة في الساحة، ولعل الالتزام بالآداب العامة والتقاليد الاجتماعية المحافظة، سواءً في المدارس والجامعات او محيط العمل او غيرها، ما يؤشر على تحدٍ ناجح لسيل عارم من محاولات نشر الميوعة والتحلل من القيم الاخلاقية والدينية عبر وسائل الاتصال السريعة والمجانية، من مواقع النت ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها.
إن ايام عاشوراء، وكل ما يرتبط بإحياء نهضة الامام الحسين، عليه السلام، تمثل فرصة للمعنيين بأمر التربية، من آباء وخطباء وعلماء ومثقفين، ومن لهم التأثير المباشر، بأن يباركوا ذلك التحدي الشجاع للهجمة الثقافية، بعدم التشويش على أجواء الشعائر الحسينية – على الأقل إن لم نقل بالحثّ عليها- وترك الشباب مع ممارسات يساندها الشرع ولا يجرمها القانون، ليأخذوا وقتهم في التدبّر والتأمل مع أنفسهم وبشكل مركّز وعنيف، لا يدع مجالاً لتسرّب عوامل تأثير أخرى.
لنأخذ مثالاً بسيطاً ربما نجد له مصاديق عديدة في حياتنا اليومية، من ذلك العالم الشاب في سالف الزمان الذي أحرق اصابع يده، بعد أن وجد نفسه فجأة مع امرأة شابة في غرفته منتصف الليل، الدرس الواضح من الردع الذاتي أمام منزلق الخطيئة، وبهذه الطريقة المؤلمة، هو الذي يشجّع الشباب اليوم على ممارسة الشعائر الحسينية المؤلمة ايضاً لصناعة دروع حصينة مستلهمة من مبادئ النهضة الحسينية، لمواجهة التحديات الخارجية على الاصعدة كافة.
الانفعالات الايجابية البناءة
إن الممارسات العنيفة في التعبير عن عمق الحزن والأسى على مصاب الامام الحسين، عليه السلام، يعدها علماء النفس، تمثل في كل الاحوال نوعاً من الانفعال النفسي غير الموجه الى الآخرين، وإنما يختصّ بالشخص نفسه، إنما الآخرون يقفون يتفرجون على المناظر الدموية التي تخلقها أعمال مختلفة لأولئك المعزين.
هذه الانفعالات النفسية الفريدة من نوعها في العالم، يعدها البعض انفعالات خارجة عن حدود العقل ومبالغ فيها، بينما نجد باحثين في علم النفس الايجابي في الغرب يخصصون فصولاً من بحوثهم لتسليط الضوء على ما يصدر من الانسان من انفعالات نفسية ليصنعون منها "انفعالات ايجابية"، ومن صناعة "حسن الحال"، وهذا لا يفيد الانسان الفرد وحده، إنما ينعكس على وضع المجتمع برمته، فيضفي عليه مسحة من السعادة والاستقرار، على أن "حسن الحال هو الابن الشرعي لتزاوج كل من الاقتدار الانساني والانفعالات الايجابية...".
وبالرغم من أن الباحث المصري في علم النفس، مصطفى حجازي، مؤلف كتاب "إطلاق طاقات الحياة، قراءة في علم النفس الايجابي"، يشير الى أن الغربيين هم أول من فكروا في الاستفادة من الانفعالات النفسية "لخدمة الانسان الغربي في المجتمعات الصناعية"، بيد أنه يلفت الى حاجة المجتمعات العربية الى هذا النوع من التوظيف والتوجيه حتى لا تنزلق الانفعالات النفسية نحو الفوضى والجريمة وانتهاك الحرمات.
وهنا وقفة تأمّل سريعة؛ فالعلماء والباحثين في الغرب يفكرون في انسانهم المتورط في دوامة العمل والانتاج والحياة المادية الصرفة، ويبحثون له عن مخارج للاضطرابات النفسية الناجمة عن تجاهل الجانب المعنوي، سواء في محيط الأسرة أو في العلاقات الاجتماعية العامة، بمعنى، أن الانفعال النفسي الموجود في الغرب هو بالأساس، سلبي يدفع صاحبه الى حافة الانتحار او القتل او السرقة، وفي أحسن الحالات؛ اللجوء الى الحانات والنوادي الليلية يلفظ كل ما علق بقلبه ونفسه من فشل في العواطف والمشاعر والقدرات الذاتية، بينما الانسان المسلم، والشيعي على وجه التحديد، فان انفعالاته في مراسيم العزاء على مصاب الامام الحسين، عليه السلام، تتسم بالايجابية الصرفة، فهو في قمة الانفعال بضرب رأسه بالسيف وسيلان الدم، في نفس الوقت لو تسأله، تجد أنه من الناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية في أحسن حال، لا يشكو مشكلة مع نفسه او مع الآخرين، وهذا يفسّر، بل ويزيل العجب من حالة الاندفاع المتزايد للشباب في مواكب التطبير، كما هي مواكب العزاء الاخرى.
إن مواكب التطبير والزنجيل ومختلف أشكال العزاء يوم عاشوراء، وحتى مراسم إحياء الاربعين، بل أي نوع من الانفعالات النفسية حزناً على مصاب أهل البيت، عليهم السلام، تستدعي التفكير والبحث العلمي في طريقة الاستفادة من هذه الانفعالات نحو مقاصد ايجابية بناءة، فالذي يصل الى هذه الدرجة من الانفعال والاندماج مع قضية مثل قضية الامام الحسين، عليه السلام، ليس بالانسان العادي، حتى وإن كانت ثمة ملاحظات على هذا العمل او ذاك، ينبغي ملاحظة اسلوب الطرح بدقة متناهية ليصار الى الاستثمار الكبير من هذه النعمة الحضارية.
اضف تعليق