تتبعثر معان كثيرة فينا، نتوه في عالمنا الذي اختلف كما اختلفت نفوسنا ؛لم نعد نستطيع أن ندرك معنى الخدمة الحسينية، أو أن نفتح قلوبنا لهذه الخدمة، بكل بساطة أصبحنا نتعامل مع الاسماء والماديات على انها مفتاح نجاح الخدمة الحسينية، نمنح أنفسنا اسم ولقب يرفعنا في المجتمع ونتجاهل ان العمل هو من يصنع الانسان لا اسمه، توقفت عند هذه الفكرة فقد اكون مخطئة واسترجعت الى الوراء كم من شخص ترك خلفة اسم يتشرف به الابناء، وكم من شخص كان معروف في عصره وما ان رحل حتى رحل معه كل شيء، وان سألت عن سيرته يلعنه البعض او يتذمر من ذكره، من منا لا يتمنى ان يبقى ذكره في الطيب حتى بعد موته، لكن يبقى سؤال كيف؟.
قطع سلسلة افكاري "زوجي" الذي كان يقرا ما اكتبه على الكيبورد، ضغط على الحروف بسرعة وكتب اذا اردت ان تكون صالحا في المجتمع اخدم صاحب الخلود، على انك غير موجود،!! طلبت منه ان يفسر ما كتبه فقد خرج عن سياق الموضوع الذي كنت افكر فيه، قال لي زوجي: عندما كنت صغير جدا في عمر التسع سنوات اذهب مع والدي في بستان اقرباء والدي ايام شهر محرم الحرام وبالخفية والخوف، كثيرا ما كنت اتردد واطلب منه العذر لامتحان او مرض، في اليوم السابع ذهبنا انا والدي ومجموعة من شباب مدينة كربلاء الى بستان وفي الطريق كانت صرخة واحده تعلو من الافواه الحسينية (هالله الحسين وينه بالسيوف مكطعينه) البعض يركض والاخر يتكأ وانا قابض بيدي والدي خوفا من كلاب البساتين، وصنا الى ذاك الدار استقبلونا بماء الورد وبكلمات (هلا بيكم.. هلا بيكم) جلسوا جميعا على الرمال وبدا صوت النعي يملا المكان، هبطت الروس لتحتضن دموعها المتساقطة، اخذت ابحث عن القارئ الذي ابكاهم قبل ان يقرا الابيات، ليس هنالك احد يعلو المنبر، سمعت انينهم وصرخاتهم تعلو ما ان بدا بقراءة المقتل، اقتربت من والدي وسالته ابي اين القارئ، اجابني ودموعه تقطر على شيبته، لا يوجد قارئ هنا هذا صوت التسجيل، استمع يا علي، ابتعدت عنه قليلا استمع الى المقتل وصل الصوت الى مقتل العباس صرخ الحضور وضربوا على رؤوسهم وتعالت زفراتهم حسرة على سقوط الكافل والحامي، لم املك دموعي انا ايضا بكيت وضربت على راسي، رفعت يدي لكنها كانت ملطخة بالدماء، انتبه ابي الى يدي وربط راسي بعصبته وقال لي لا تخف هذا الدم من (التطبير) ينقطع فقط اضغط على العصبة واستمع الى المقتل.
مر الوقت والحضور يستمع الى المقتل، ساعات قضت والدموع لم تنقضي بعد، متعطشين للبكاء، بدا بقراءة النعي وهذا ما يعني انه انتهى من قراءة المقتل (وقفوا يهيئون للطم، دائرة لم تكن واسعة لكنها كانت تنقص كل عام بسبب الظالم فكل عام ينقص من الحضور وعندما يسأل والدي عنه يقال له انه في السجن او تم تهجيره، واخر مرة قالوا له انه فلان قد عدمه صدام) لا يتجاوز عددهم الاربعين مع الاطفال، انتهى المجلس ورجعنا الى الصحن الحسيني الشريف وكان مكتظ بالحرس، اثار انتباهي صوت القارئ في الصحن يشبه صوت القارئ في الدار الحاج " زيني" عند الانتهاء من الزيارة وفي الطريق العودة الى دارنا سالت والدي هذا السؤال، من هو هذا القارئ؟.
مسك بيدي وقال لي الخطيب والشيخ عبد الزهرة الكعبي رحمه الله وتقبل منه خدمته، هل رأيت كل مكان تسمع صوته وعندما تكبر تعرف ماذا فعل للحسين حتى بقي صوته ونعيه ومقتله الى زمانك يا ولدي، رحل والدي ورحل جميع من كانوا في هذا المجلس تركوا خلفهم ارث حسيني مازال يذكر في كل مجلس، والى الان الكبير والصغير يعرف قصة المقتل من صوت الشيخ عبد الزهرة الكعبي، فلماذا خلد لهذا الزمان؟.
انا ايضا سمعت صوته كثيرا من خلال القنوات الفضائية التي تبث تسجيل المقتل بصوته واذكر هذا المقطع الذي كنت اردده في داخلي كثيرا (نوحي على الاولاد يا زهرة الحزينة) احسنت ذكرتني بعلم من اعلام المنبر الحسيني، على بركة الله نبدأ الكتابة عن حياته لنتعلم منه.
سيرة الشيخ عبد الزهرة
الشيخ عبد الزهرة بن فلاح بن عباس بن وادي آل منصور من قبيلة بني كعب الشهيرة، نزحت أسرته من المشخاب واستوطنت كربلاء، ولد الشيخ الكعبي في مدينة المشخاب في يوم العشرين من شهر جمادى الآخر عام 1327هـ الموافق 8 يوليو 1909م، في يوم ذكرى مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ولذلك سمي بـ (عبد الزهرة). ولأنه كان مقاومًا رافضًا للظلم الذي كانت تغوص فيه العراق، ضاق به البعثيون لتمرده عليهم ولإعلانه موقفه الرافض للرضوخ لهم، فتعرّض هو والعديد من العلماء الذين انتهجوا نهجًا مماثلا لأقسى أنواع الظلم والتعذيب، وتمّ اعتقاله مع مجموعة من الشيوخ وذلك لقيامهم بالتوقيع مطالبين فيها إطلاق سراح الشهيد السيد حسن الشيرازي "قدس سره" حيث حكم عليه بالحجز الاحترازي لمدة أربعة أشهر وأُطلق سراحه بعدها وذلك عام 1969م.
نشأ وترعرع في ربوع كربلاء المقدسة بعد أن شد عوده وقوي ساعده دخل معاهد العلم والأدب عند الكتاتيب آنذاك يسمى بـ(الملا) فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم كله وهو في سن مبكر خلال ستة أشهر على يد المرحوم الشيخ محمد السراج في الصحن الحسيني الشريف، وفي علم العروض على يد الشيخ عبد الحسين الحويزي، ثم أصبح من أساتذة الحوزة العلمية الشريفة في كربلاء حيث كان يلقي دروسه في الفقه الإسلامي واللغة العربية وفن الخطابة على عدد من طلبة الحوزة والعلوم الدينية، وتولى التدريس في مدرسة الإمام القائم ومدرسة السيد المجدد الشيرازي ومدرسة (باد كوبة) الدينية وغيرها كما درس الأحاديث النبوية وخطب نهج البلاغة، حضر مبادئ العلوم على الحجة الشيخ علي بن فليح الرماحي، ثم درس الفقه والأصول على العلامة الشيخ محمد داود الخطيب، وأخذ المنطق والبلاغة على العلامة الحجة الشيخ جعفر الرشتي.
أما الخطابة فقد أخذها على الخطيبين الجليلين الشيخ محمد مهدي المازن درأني الحائري المعروف بـ(الواعظ) وخطيب كربلاء الأوحد الشيخ محسن بن حسن أبو الحب الخفاجي ثم برع فيها واشتهر، وذاع صيته في الآفاق مخلصاً متفانياً في خدمة الإمام الحسين سيد الشهداء، سافر لعدد من الدول العربية من أجل التبليغ بإشارة من مراجع الدين العظام أمثال آية الله السيد محسن الحكيم وآية الله السيد الشيرازي وبعض أهل العلم والفضيلة فذهب إلى مملكة البحرين والقطيف والأحساء وجنوب إيران وغيرها من البلدان خارج العراق، نال إعجاب المستمعين وتأثرهم بمجالسه، لما له من دور متميز في هذا الفن، فضلاً عن اخلاقه.
له دور متميز في تربية الجيل من الشباب بالثقافة الإسلامية والتسلح بالوعي بمخاطر الانحراف والظلم وذلك من خلال منبره ومشاركته في مشاريع التوعية والتربية أينما حل (رضوان الله عليه)، أي أنه كان يتميز من دون باقي أقرانه بالجرأة المشهودة واهتمامه بالشباب وكان يمانع من إخراج الأطفال من المجلس قائلاً: (إن اهتمامنا عملياً ينبغي أن ينصب على هؤلاء لأنهم الثمرة في المستقبل) وكذلك تميز بالذكاء وقوة حافظته حيث المخزون العلمي الذي كان يتبين من خلال مجالسه المؤثرة في مستمعيه فكان يطرح المعلومات التاريخية والبحوث العقائدية والتي لا يراجع بها كتاباً في موسم التبليغ ، وكما سعى في تزويج كثير من الشباب المؤمن بالمال والجاه مؤثراً في أوساط المجتمع وعلى العموم فلقد كان عالماً عاملاً مجاهداً، دمث الأخلاق متواضعاً، لا يشعر جليسه بأي حرج في طرح الأسئلة معروف بالنوادر وظرف الحديث والمزاح المتزن.
وقد نقل عن جهاده ومواقفه الشيخ ضياء الزبيدي وهو من تلامذته قائلاً: (تم اعتقال الشهيد السيد حسن الشيرازي من قبل السلطة البعثية الجائرة في العراق. فبادر بعض خطباء كربلاء برفع برقية إلى (البكر) طالبين إطلاق سراح السيد، فما كان من السلطة إلا أصدرت أمراً باعتقال الموقعين على البرقية وهم الشيخ عبد الزهرة الكعبي، الشيخ حمزة الزبيدي، السيد كاظم القزويني والسيد مرتضى القزويني والشيخ عبد الحميد المهاجر.
فتمكنت السلطة من اعتقال الشيخ الكعبي والزبيدي في دائرة أمن كربلاء لمدة ثلاثة أيام نُقلا بعدها إلى مركز أمن (الحرية) ثم مديرية الأمن العامة في بغداد، بعدها تم نقلهما إلى سجن (بعقوبة) حيث حكم عليهما بالحجز الاحترازي لمدة أربعة أشهر أُطلق سراحهما بعدها وذلك عام 1969م. لم تفارقه عيون الظلم فكانت تتربص باعتقاله او اغتياله، فما كان منهم إلا أن سخّروا بعض جلاوزتهم لدسّ السمّ القاتل إليه في القهوة التي قدمت له في مجلس فاتحة حضره فيها وبعض تلامذته، فرجع إلى مجلسه في صحن العباس (عليه السلام) وأثناء قراءته أصابته حالة إغماء سقط على أثرها من على المنبر وفي طريقه إلى المستشفى عرجت روحه إلى ربها في ليلة فاطمة الزهراء في يوم 13 جمادى الأولى سنة 1394هـ الموافق 3 يونيه 1974م، أعقب الكعبي ولدين هما (علي، عبد الحسين).
وكانت مراسيم تشييعه مشابهةً تماماً لمراسيم تشييع مراجع الدين الكبار، حيث وضع جثمانه في (العماري) وهي نعش خشبي كبير يوضع فيه التابوت احتراماً للمتوفى، ثم انطلقت المسيرات العزائية الحزينة في مقدمة الجنازة. وقد ضجت لوفاته كثير من البلاد الإسلامية فكتبت عنه الصحف والمجلات وأقيمت على روحه مجالس الفاتحة في كثير من البلاد داخل العراق وخارجه رحم الله الخادم المخلص وتقبل منه بأحسن قبول.
قصص من حياته
ينقل أحد تلامذة الشيخ عن أحد الشباب الذين التقوا الشيخ قال الشاب: كنت في سن الثامنة من عمري وكنت يومها في الصف الرابع الابتدائي، وكان عندي امتحان وكان عليّ أن أذهب مبكراً إلى المدرسة، لأكون هناك قبل موعد الامتحان.. وفي هذا الجو.. وأنا أريد أن أذهب إلى المدرسة فأجابني أبي وهو يطلب مني أن أذهب إلى الخباز، لتأمين الخبز إلى العائلة لأنهم يريدون الإفطار وليس عندهم خبز. وعبثاً حاولت الاعتذار من أبي، فلقد كان أباً قاسياً لا يرحمني أبداً، فرأيت إني إذا لم أمتثل لأمره فإن جزائي سيكون الضرب المبرح، وإذا امتثلت لأمره وذهبت إلى الخباز فإن الوقت يفوتني ولن أستطيع الوصول إلى المدرسة في الوقت المحدد، وهذا أيضاً فيه ما فيه من التعنيف والإهانة والضرب من قبل المعلمين والمشرفين على المدرسة.. فرأيت نفسي بين نارين: نار أبي، ونار قوانين المدرسة الصارمة. وحين وجدت نفسي مضطراً ومكرهاً لامتثال أمر أبي ذهبت إلى الخباز وأنا أحمل كتب المدرسة بيدي، وأشعر أني أتمزق من الداخل، وكم كانت الصدمة قوية عليّ عندما وجدت صفاً طويلاً من الناس ينتظرون دورهم على باب المخبز، فما كان مني إلا ان وقفت معهم في آخر الصف، ومن محاسن التقدير ان الشيخ الكعبي كان في أول الصف ليس بينه وبين أن يصل إليه الدور إلا شخص واحد، فنظر الشيخ إلي وأدرك حيرتي وارتباكي، لقد عرف كل الحكاية من دون أن أشرحها له، فما كان منه إلّا أن ناداني بصوته: بابا.. تعال ابني إلى هنا وحين جئت إليه رأيته يعطيني دوره ويذهب هو ليقف في آخر الصف.
عبد الزهرة الكعبي والامام المهدي
في بداية خطابته كان يبحث عن قصيدة يقال لها (قصيدة ابن العر ندس).
هذه القصيدة يقول عنها العلامة الاميني رحمه الله في الغدير:
(قد عرف بين اصحابنا ان في كل مجلس تقرأ فيه هذه القصيدة يحضر الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه) كان الشيخ عبد الزهرة الكعبي يبحث عن هذه القصيدة ولم يجدها بسبب ان الكتب في ذلك الزمان لم تكن متوفرة وظل الشيخ عبد الزهرة رحمه الله يبحث عنها حتى توسل بالإمام الحسين
(عليه السلام) للحصول عليها وفي يوم من الايام بعد صلاة الفجر وهو في صحن الامام الحسين كان في الصحن غرفة يُجلد فيها الكتب وفيها شخص يدعى الحاج عبد الله الكتبي عندما رأى الشيخ عبد الزهرة يمشي في الصحن ناداه وقال له عندي مجموعة من الكتب اتوا بها للتجليد هل تريد ان تراها
لعلها تنفعك بمجرد ان فتح الشيخ عبد الزهرة الكتاب الاول واذا به يرى
(قصيدة ابن العر ندس) التي كان يبحث عنها منذ زمن فقال الشيخ عبد الزهرة للحاج عبد الله الكتبي: اريد ان اشتري منك هذا الكتاب فما ثمنه؟
فقال له الحاج عبد الله الكتبي: ثمنه ان تجلس وتقرأ هذه القصيدة الان
ولم يكن هنالك أحد في ذلك المكان وبدأ الشيخ عبد الزهرة بالقراءة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم
وبمجرد ان بدأ واذا بسيد جليل له زي الاعراب وله هيبة ونورانية يأتي ويسلم عليهم ويجلس يقول الشيخ عبد الزهرة: انه بمجرد ان جلس ذلك السيد اخذتني هيبته ولم اقدر ان أقرأ فقال لي: أقرأ
فيقول الشيخ عبد الزهرة : بدأت بالقراءة حتى وصلت هذا البيت
أيقتل ظمآنا حسين بكربلاء * وفي كل عضو من أنامله بحر؟
ووالده الساقي على الحوض في غد * وفاطمة ماء الفرات لها مهر
يقول الشيخ عبد الزهرة: عندما وصلت هذا البيت وقف ذلك السيد وتوجه الى ضريح الحسين عليه السلام وكرر ثلاث مرات أيقتل... أيقتل... أيقتل
يقول الشيخ عبد الزهرة: عندما كرر هذه الكلمة ثلاث مرات انزلنا رؤوسنا انا والحاج واخذنا بالبكاء لحظات ثم رفعنا رأسنا ولم نجد أثر لذلك السيد.. بحثنا عنه لم نجده وانا في ذلك الوقت لم أكن ملتفت الى هذه القضية، وبعد ذلك قرأت انه ما قرأت هذه القصيدة في مكان إلا وحضر فيها الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه.
سلام الله عليهم جميعا هنيئا لك يا شيخ الكعبي تشرفت بحضور الامام المهدي ونلت الوسام الخدمة الحسينية فلا عجب من سطوع نورك في سماء الخدمة فصدق عليك القول كل الخدم تنهاه شفناه بالعين بس بكرامة تعيش خدام الحسين.
اضف تعليق