ملفات - عاشوراء

الشُّروط الموضوعيَّة للحكومةِ العادلةِ

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (١٣)

الحكومةُ الصَّالحةُ توظِّف السُّلطة لتحمي الدَّم أَمَّا السُّلطة الظَّالمة فتهدر الدَّم وتستبيحهُ لتبني أَمجادها، ولذلكَ فالدَّمُ هوَ أَصدقُ دليلٍ وأَوضحُ بُرهانٍ على طبيعةِ الحكومةِ وفلسفتَها ورُؤيتَها ولذلكَ فإِنَّ الدَّم هوَ أَوَّلُ وآخرُ خطٍ أَحمر يجب أَن تتجنَّبهُ الحكومة، كما أَنَّ الله تعالى يحكمُ يومَ القِيامةِ أَوَّلا...

 قبلَ أَن نسترسلَ في البحثِ لابُدَّ من لفتِ نظرٍ مُهمٍّ وهوَ؛ نحنُ لا نتحدَّث هُنا عن [الحكومةِ الدينيَّةِ] ولسنا بصَددِ نقدِ [الحكومة المدنيَّة] أَبداً وإِنَّما نتحدَّث عن [الحكومةِ] بصفةٍ مُطلقةٍ باعتبارِها حاجةٌ إِنسانيَّةٌ كما أَسلفنا، لا يُمكِنُ الإِستغناءَ عنها بأَيِّ حالٍ منَ الأَحوالِ، وما نُجريهِ من تمييزٍ ونسوقهُ من فوارقَ إِنَّما بين [الصَّالحِ] و [الطَّالحِ] أَو بينَ [الحكومةِ العادِلةِ] و [الحكومةِ الظَّالمةِ].

 نعودُ للحديثِ إِذن؛

 والاختلافُ بينهُما يبدأ بطبيعةِ سعي كُلٍّ منهُما للحكومةِ والهدفِ مِنها وكذلكَ بالإِنجازِ.

 فلقد حدَّدَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) الشُّروط الموضوعيَّة للحكومةِ العادلةِ بقولهِ في خُطبتهِ المعرُوفةِ بالشَّقشقيَّةِ {أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ} والدُّنيا هُنا تعبيرٌ عن [الحكومةِ] أَو [الخلافةِ] تحديداً.

 ويضيفُ (ع) يشرحُ فلسفة السُّلطة في نهجهِ {اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ولَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ. 

 اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وسَمِعَ وأَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّه (ص) بِالصَّلَاةِ}. 

 أَمَّا أَهداف الحكُومة فهيَ كما رسمَ معالمَها (ع) في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {هَذَا مَا أَمَرَ بِه عَبْدُ اللَّه عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِه إِلَيْه حِينَ وَلَّاه مِصْرَ؛ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلَادِهَا}.

 هي، إِذن، [٤] أَهداف أَمامَ الحكومةِ، أَيَّةِ حكومةٍ، لتحقيقِها فإِذا أَنجزتها تستمرَّ الحكومَة في السُّلطةِ بشرعيَّةٍ كامِلةٍ وإِلَّا فإِنَّها ستفقُدُ الشرعيَّة وعليها أَن تترُكَ السُّلطة.

 والحكومةُ الصَّالحةُ توظِّف السُّلطة لتحمي الدَّم أَمَّا السُّلطة الظَّالمة فتهدر الدَّم وتستبيحهُ لتبني أَمجادها، ولذلكَ فالدَّمُ هوَ أَصدقُ دليلٍ وأَوضحُ بُرهانٍ على طبيعةِ الحكومةِ وفلسفتَها ورُؤيتَها ولذلكَ فإِنَّ الدَّم هوَ أَوَّلُ وآخرُ خطٍ أَحمر يجب أَن تتجنَّبهُ الحكومة، كما أَنَّ الله تعالى يحكمُ يومَ القِيامةِ أَوَّلاً بالدِّماءِ، كما يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) مُحذِّراً الأَشتر في عهدهِ لهُ {إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّه لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ ولَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ ولَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا واللَّه سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ ويُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ ويَنْقُلُهُ ولَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّه ولَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لأَنَّ فِيه قَوَدَ الْبَدَنِ وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ}.

 وإِنَّ من أَبرزِ مظاهرِ الحكومةِ الصَّالحةِ أَنَّها ترى نفسَها مُقصِّرةٌ دائماً أَمامَ حقوقِ الرعيَّة، ولذلكَ فهيَ ترفضُ التَّزميرَ والتَّطبيلَ والتَّبويقَ إِذا أَنجزت شيئاً أَو حقَّقت وعداً قطعتهُ على نفسِها، ما لم تنتهِ من كُلِّ واجباتِها والتزاماتِها أَمامَ رعيَّتها، ولمْ ولنْ!.

 يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في خُطبةٍ لهُ خطبَها في صفِّينَ {وقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الإِطْرَاءَ واسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ ولَسْتُ، بِحَمْدِ اللَّه، كَذَلِكَ ولَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّه سُبْحَانَه عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِه مِنَ الْعَظَمَةِ والْكِبْرِيَاءِ ورُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّه سُبْحَانَه وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِه الْجَبَابِرَةُ ولَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِه عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ ولَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ ولَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْه فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ}.

 في ظلِّ هذهِ المُحدَّداتِ كان [سعي] أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) للحكومةِ وكذلكَ السِّبطان الحسَن المُجتبى والحُسين الشَّهيدِ (ع).

 فلقد كانَ الجميعُ يعرِفُ حقَّ المعرِفةِ بأَنَّ أَميرَ المُؤمنِينَ (ع) أَحقُّ النَّاسَ بالحكُومةِ وبكُلِّ المعاييرِ والظُّروفِ، كما وصفَ (ع) معرفتهُم هذهِ بقولهِ في الشَّقشقيَّةِ آنفَةَ الذِّكرِ {أَمَا واللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ} فلِماذا تركتَها، إِذن، يا أَميرَ المُؤمنِينَ(ع)؟! يُضيفُ شارحاً المَوقف {فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً}.

 هوَ (ع) كذلكَ كانَ واثقاً من معرفةِ الآخرينَ بكونهِ الأَجدرُ والأَحقُّ بالحكومةِ، ما يُشيرُ إِشارةً واضِحةً إِلى أَنَّهُ كانَ مُستعدّاً لها تمامَ الإِستعدادِ لَولا الظُّروفِ القاسِيةِ التي مرَّت بالأُمَّة.

 يشرحُ (ع) تفاصيلَ ذلكَ في رسالةٍ لهُ {أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَى (ص) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِه فَوَاللَّه مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي ولَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِه (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِه ولَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِه! فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَه فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلَامَ وأَهْلَه أَنْ أَرَى فِيه ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِه عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَه}.

 أُعيدُ التَّذكيرُ هُنا، فصبرُهُ (ع) لم يكُن على الإِمامةِ أَبداً فهي ليسَت خيارهُ وإِنَّما خَيارُ السَّماءِ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ} وإِنَّما على الخلافةِ [الحكومةِ] التي هي خيارهُ حسبَ الظُّروفِ، يتصدَّى لها أَو يحجِم عنها.

يتبع...

اضف تعليق