الشعائر الحسينية تعبير عن الرأي العام المفضي للإصلاح، والممارسة والتظاهرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية المفتوحة لتأشير مواطن الخلل في بناء الانسان وكيان الدولة فهي بمثابة العقد الاجتماعي بين مختلف الاطراف الانسان والمواطن المؤمن الواعي واجهزة الدولة ومؤسساتها، لذا يجب تنميتها وتعميقها بالشكل الذي يمنحها دورا اكثر...

كيف تساهم زيارة الاربعين في تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية؟ وماهو دور الحكومة والنخب والكتل السياسية في استثمار زيارة الاربعين لتحقيق العقد الاجتماعي؟

بين شهري محرم وصفر من كل عام تشهد مدينة كربلاء المقدسة تجمعا بشريا هو الاكبر عالميا لأداء مراسم زيارة الاربعينية احياءا لذكرى استشهاد الامام الحسين في العاشر من محرم الحرام، وبحسب آخر احصائيات مجلس المحافظة لأعداد الزائرين في العام الماضي 2023 فقد بلغت اكثر من 22 مليون زائر من العراقيين والعرب والمسلمين... قدموا من كل حدب وصوب ومن مختلف الاراضي والبقاع للمشاركة والتعزية واداء الزيارة.

التساؤل الذي يطرح نفسه، هو اي قوة هائلة تقف وراء هذا التجمع والاندفاع والتحدي والبذل والعطاء اللا محدود من قبل مختلف الشرائح بدءا من الشيخ الكبير والمرأة المسنة والشاب اليافع وصولا للطفل الصغير، فالجميع يقطع القفار ومئات الكيلومترات سيرا على الاقدام غير آبه بالظروف الجوية ولا الاعباء المادية للسفر والتنقل ولا للجهود المضنية في صيف العراق اللاهب.

يقول احد المفكرين الغربيين (ان ما جرى في كربلاء كافي لكي يحدث في قلب اكثر الناس تهاونا في الامور؛ حماسة وحزنا وهيجانا شديدا؛ وان تتعالى الروح بالكمال بحيث تستهين بالألم والموت)، لذلك فان احياء هذه المناسبات والتخطيط لاستثمارها بشكل امثل يحقق الامور التالية:

اولا: شحذ الهمم والنفس بالمعنويات، لان الانسان بحاجة بين فترة واخرى الى الغذاء الروحي لمواجهة المشاكل والتحديات والصعاب، وهذه المناسبات وخاصة عاشوراء واربعين الامام الحسين (ع) تعتبر محطة كبرى مفتوحة للتزود بالقيم والمثل والنبل، بما يخدم مسيرة التقدم والتطور والرقي ليس على مستوى العراق فحسب بل على مستوى شعوب المنطقة والعالم اجمع. 

فالحسين كان ولا يزال مدرسة لتعليم الانسانية القيم السامية والمثل العليا في محاربة القهر والاستبداد والطغاة والظلم والظالمين، لذا نرى الحسينيون على مر التاريخ القديم والحديث يتقدمون صفوف المضحين والمقارعين للسلطة الظالمة، لان روح الحسين تتحرك في دمائهم وتدفعهم في اتجاه الصواب دائما، ونرى ذلك واضحا في مواقف معاصرة مثل فتوى الجهاد الكفائي بمواجهة داعش، وفي مواقف حزب الله اللبناني والحوثيين والمقاومة في العراق في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين.

ثانيا: حفظ الهوية، فقد كانت مهمة الامام الحسين وثورته تهدف للحفاظ على الهوية الاسلامية التي حاول طمسها الامويين بالتزييف والترهيب، من هنا كان احياء منهجها خطرا على استبداد الامويين والعباسيين على حد سواء، وكل الظالمين على مر العصور، ولسنا ببعيدين عن آخرهم من البعثيين الذين كانوا يواجهون المناسبات الحسينية بقسوة يدفعها خوفهم منها، بممارسة اقسى انواع القتل والتنكيل والتشريد بحق الزوار وممارسي الشعائر ولكنهم لم يفلحوا في ثني الامة وابعادها عن الحسين، فالحسين يمثل هوية هذه الامة واحياءا لوجودها وحفاظا عليها وتكريسا وترسيخا لواقعها ومستقبلها.

ثالثا: البعد الحضاري، فالمناسبات الحسينية حركة اجتماعية يمثلها الغنى الثقافي والاحتكاك بين مختلف الشعوب وتلاقي الحضارات، واثراء التراث الفكري والاسلامي واحياء جوانبه المنيرة.

فالشعائر الحسينية تعبير عن الرأي العام المفضي للإصلاح، والممارسة والتظاهرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية المفتوحة لتأشير مواطن الخلل في بناء الانسان وكيان الدولة فهي بمثابة العقد الاجتماعي بين مختلف الاطراف الانسان والمواطن المؤمن الواعي واجهزة الدولة ومؤسساتها، لذا يجب تنميتها وتعميقها بالشكل الذي يمنحها دورا اكثر قابلية وفاعلية.

رابعا: الاثر التنموي، فالمناسبة بما تمثله من جذب لملايين الزوار من مختلف الاقطار والاصقاع تشكل اثرا ايجابيا وقطاعيا على حركة الحياة في مختلف المجالات خصوصا مجال السياحة الدينية، كما انها تعتبر محركا اساسيا ورئيسيا سوف يحتكم اليه الاقتصاد العراقي الذي سيتنامى لا محالة في مجالات النقل الجوي والبري وحتى البحري مستقبلا، وفي مجالات التنمية والتبادل الثقافي والتجاري والاستثمار الخارجي.

لذا فان المناسبة على الصعيد الاقتصادي فرصة لامتصاص البطالة المتفاقمة، وارض خصبة لتوفير العملة الصعبة وموردا يضاهي بإمكانياته موارد الحج والعمرة على سبيل المثال، وعليه فهي استثمار للطاقات وتوفير للوقت وليس كما توصف من قبل بعض الاقلام التي لا تنظر بعين الحقيقة "تعطيل للطاقات واضاعة للوقت".

فالمناسبات في شهري محرم وصفر تعد بوتقة لصهر الحضارات الاسلامية المختلفة، ومؤتمرات موسعة يشارك فيها الملايين من مختلف الشرائح والتوجهات بعفوية ولا يقتصر ذلك على العراقيين فحسب بل هي فرصة ومناسبة للتداول في شؤون الامة والتحديات التي تواجهها والسبل الناجحة لتوحيد الجهود للوقوف امامها من خلال اللقاءات والاجتماعات في الهيئات والمواكب والتزاور والتشاور طيلة ايام المناسبة، يجمعهم مشترك واحد هو الامام الحسين (ع) الذي قال عنه الرسول الاكرم (الحسين مصباح هدى وسفينة النجاة).

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية تحت عنوان (زيارة الاربعين وترسيخ العقد الاجتماعي)

اضف تعليق