إن الامام الحسين، ضحى بنفسه وأهل بيته من اجل حياة كريمة للأمة، ولا يريد أن يكون لواقعة الطف منطلقاً نحو القلق والاضطراب والموت، وذلك من خلال وعي الذات أولاً، ثم وعي المحيط الاجتماعي والسياسي، والتسلّح بالعلم والمعرفة، حتى مسألة البكاء والمواساة على مصابه، يمثل وسيلة لتحقيق هذا الوعي...

"بذل مهجته فيك ليُنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة"

من زيارة للإمام الحسين يوم الأربعين

الشعوب الطامحة للاستقلال والحرية لا تجد بداً من خوض المواجهة المباشرة لتحقيق اهدافها العادلة، وربما تحمل السلاح عندما يُصر الطرف المقابل على بغيه ومنهجه العنيف، وفي هذا الطريق تقدم الشهداء وتضحي بخيرة ابنائها من اجل ضمان الحياة الكريمة لابناء الجيل القادم.

في ظل ظروف كهذه لا تكون ثمة فرصة للتفكير بخيارات أخرى للمواجهة كما يفعله الطرف الآخر (أنظمة حكم- تيارات ثقافية- دول معنية) في محاولة منه لكسب أكثر بتكلفة أقل من خلال اتباع اساليب للمواجهة بعيدة عن الدماء والعنف في حالات وظروف معينة. 

والتفكير بهذه الخيارات يعني حاجتنا الى منهج واسلوب وأدوات لخوض ما يسمى بـ "الحرب الناعمة"، وبالحقيقة؛ فان افرازات هذا النوع من الحرب يتعارض مع صفته الناعمة، ففي الواقع نجد التشكيك، والتجديف، والتسقيط والقتل المعنوي المريع لرموز ولقيم لها جذور في التاريخ والحضارة.  

وهذه كانت الازمة الفكرية لأهل الكوفة وهم يريدون في قرارة انفسهم استدعاء الامام الحسين، عليه السلام، ليكون خليفة للأمة انطلاقاً من هذه المدينة المحورية في الدولة الاسلامية بدلاً من يزيد، على أمل التخلص من براثن الدولة الأموية ومحو آثار الذل والهوان التي ألحقها بهم معاوية في عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، بيد أن الإرادة القلبية والعاطفية شيء، والواقع على الأرض شيء آخر. 

التعبئة الفكرية قبل التعبئة العسكرية

جاء في رواية أن الامام الحسين، عليه السلام، طرح سؤالاً على رجل يسأله: "أيهما أحبّ اليك؛ رجل يروم قتل مسكين قد ضعف، أتنقذه من يده، أم ناصب يريد إضلال مسكين من ضعفاء شعيتنا، تفتح عليه ما يمتنع به، ويفحمه ويكسره بحجج الله –تعالى-"؟ في نفس الرواية يجيب الامام بنفسه بالقول: "بل إنقاذ هذا المسكين المؤمن من يد ذلك الناصبي"، والرواية موجودة في بحار الانوار، مجلد2، باب8، الحديث رقم17، والدعوة صريحة ومؤكدة من الامام الحسين بأولوية التعبئة الفكرية والثقافية قبل التعبئة العسكرية، حتى و إن كانت الأجواء ملبدة بالحرب وانتشار رائحة الدم والموت في كل مكان، وقد فعلها الأمويون بنجاح مع أهل الكوفة بإشاعاتهم النبأ الكاذب باحتمال عودة جيش الشام مرة اخرى الى القتال وأنهم "لن يرحموا احداً ولن يتورعوا عن فعل أي شيء"! 

وإن حصل القتل والموت الذي لن يحصد المئات والآلاف، إنما افراداً معدودين في ظل تسارع وتيرة الوعي في الامة، و"القاتل لا يأخذ من الانسان إلا حياة فانية في هذه الدنيا، بينما الضال المُضل الذي يستهدف العقيدة والدين، فانه يحطم –لو نجح- حياة الانسان الخالدة، فيحرمه جنة الله الواسعة، وعليه فقضية الهداية والإرشاد والتحصين الفكري والعقائدي للناس والامة يجب ان تكون في أعلى سلّم أولوياتنا". (الامام الحسين وفروع الدين- آية الله السيد مرتضى الشيرازي)، فاذا يتمكن الحاكم الظالم والباغي ومن يكون في موقعه، قتل انسان واحد او عشرة في ظروف اليقظة والوعي، فانه يجد الفرصة متاحة لقتل الآلاف من الناس المُضللين. 

قوة العاطفة أم قوة العقل؟

قوتان تتنازعان للسيطرة على النفس البشرية لتطويع الانسان ودفعه الى ما يختاره بنفسه، ففي ظروف كالتي نعيشها في العراق، ويعيشها العديد من المسلمين فيما بين المشرق والمغرب، والجميع يرنو الى تغيير الواقع الفاسد، والتطلع الى مستقبل زاهر، فان العاطفة تخلق لنا الحماس، والانفعال، والانطواء على الذات، والبحث لها عن صفات جميلة مثل التفوق والتميّز والبطولة، و ايضاً؛ تخلق لنا الحب بأشكاله المتعددة، بينما العقل يقدم لنا العلم والمعرفة، والحكمة، والرضا بالموجود، وكلها تشكل منصّة لرؤية بعيدة المدى للحاضر والمستقبل، مع الاستفادة من تجارب الماضي، ومن ثم؛ توفّر القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في الوقت الحاسم، كأن الاتفاق الجماعي على إضرابات عن العمل للضغط على الحكومة، او مقاطعة منتجات معينة مقابل التسريع بانتاج البديل الوطني، أو ربما يكون الموقف الصائب في الوقوف الشجاع الى جانب القيادة الرشيدة ونصرتها في مواجهة سهام التسقيط والتشكيك. 

إن السبب وراء قرار البعض بالتخلّي عن الامام الحسين قبل وصوله الى ساحة المواجهة في صحراء كربلاء، الى جانب المتخاذلين من اهل الكوفة، هو تغليبهم قوة العاطفة وحب الذات والحياة والخوف من الموت، علماً أن حساب العقل عند كل انسان يعطي نتيجة واحدة لمصير الجميع في هذه الحياة بالموت ومغادرة هذه الحياة، إن عاجلاً أو آجلاً، وفي لحظة غفلة قاتلة، قتل أهل الكوفة وكل المنسحبين والمتخاذلين انفسهم معنوياً في البداية، ثم مادياً عندما أزهقت أرواح الآلاف منهم بعد واقعة عاشوراء، و استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، في احداث مختلفة بعد أن أظهروا الندم، و ذرفوا الدموع، و تخلّوا عن حكم ابن زياد الكوفة، ولكن لا فائدة بعد أن "سبق السيف العَذِل".

إن الامام الحسين، ضحى بنفسه وأهل بيته من اجل حياة كريمة للأمة، ولا يريد أن يكون لواقعة الطف منطلقاً نحو القلق والاضطراب والموت، وذلك من خلال وعي الذات أولاً، ثم وعي المحيط الاجتماعي والسياسي، والتسلّح بالعلم والمعرفة، حتى مسألة البكاء والمواساة على مصابه، ومصاب أهل بيته، عليهم السلام، يمثل وسيلة لتحقيق هذا الوعي والوصول الى مراقي العلم والمعرفة، وعدم السماح للجهل والتضليل والضياع بالتسلل الى نفوس أبناء الأمة، ولاسيما شريحة الشباب.

ولعل هذا يفسر لنا اختيار الامام الحسين مفردة "أتُحب"؟ في الحديث المشار اليه، ولم يستخدم مفردة الإرادة مثلاً؛ "أتريد"، ليبين لنا أن الحب والحماس وكل إفرازات العاطفة تأتي في المرتبة الثانية في التأثير على حياة الانسان والامة، لا أن تقرر المصير، لذا فهو، عليه السلام، "يريد إخضاع مملكة القلب لمملكة العقل" التي تقود الانسان الى السعادة في الدنيا والآخرة.

اضف تعليق