أجواء المشي لزيارة الاربعين لا تتكرر إلا مرة واحدة في العام، فهي ليست مثل سائر الزيارات المليونية للإمام الحسين، عليه السلام، في مدينة كربلاء المقدسة، للأهمية البالغة التي يوليها المؤمنون لهذه الزيارة أولاً؛ ولعلاقتها بالنهضة الحسينية- العاشورائية ثانياً، فربما يمكن تشبيهها بالشمس الساطعة على كل أرجاء الكرة الارضية، يبقى من يستفيد بشكل أفضل وأكبر...
زيارة الامام الحسين، عليه السلام، في أربعينيته سيراً على الاقدام لمسافات طويلة، يستغرق زمناً طويلاً، تجعل الزائر والزائرة لساعات وأيام يخلون بأنفسهم، فمن الطبيعي أن يزيد التكلّم جهداً إضافياً على جهد المشي، فيفضل الزائر بشكل تلقائي الصمت، و ربما تكون علّة بث المراثي الحسينية عبر مكبرات الصوت على طول الطريق لكسر ملل الصمت واستبداله بالحماس وإثارة المشاعر.
الى جانب هذا الحماس من جانبي طريق المشاة، تعد الفترات الزمنية الطولية فرصة للتأمل والتفكّر في اهداف ومبادئ النهضة الحسينية، والنظر فيما يحمله الزائر من سلوك وفكر وعقيدة، والتحقق من التطابق، حتى وإن كان نسبياً، فان كانت النسبة عالية، فهو خير على خير، أما اذا كانت أقل فهذا يعني ضرورة المراجعة بغية التغيير اعتماداً على جهد نفسي وذاتي خاص.
هل أنا على خطأ؟!
يبحث علماء النفس في الرغبات والنزعات والمشاعر، و وجدوا الميل الشديد الى العُجب، والمديح، والظهور المتألق، بل وحتى التأثير على الآخرين، كما وجدوا في الوقت نفسه؛ التحسس من الأوامر و الزواجر بفعل هذا وترك ذاك، بل وجدوا الاستبداد، قبل ان يكون مفهوماً سياسياً يدور في أروقة الحكم، هو بالأصل نزعة نفسية، لذا كانت صعبة ومعقدة للغاية مهمة الانبياء والمرسلين من السماء، وايضاً؛ المصلحين والمفكرين عبر التاريخ، إقناع ابناء مجتمعهم ببعض الاخطاء في حياتهم، ومن بواكير الكشف النفسي للبشرية في هذا المجال ما جاء في الآية الكريمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}.
ثم طفق بعض المفكرين في القرن الماضي، يغازلون هذا النزعة النفسية مبشرين الانسان بحريته في اختيار نمط حياته بنفسه وفق رغباته وقناعاته الشخصية، مستنداً الى قوة ارادته، فلا مسؤولية اجتماعية متبادلة بين افراد المجتمع، إنما الانسان وحده مسؤول عن نفسه، فالحرية الحقيقية والكاملة عند هذا البعض أن لا يضطر الانسان الإصغاء الى حديث الحق والفضيلة والخير والايمان، لأن وجوده في الحياة أسمى سابق على تلكم المفاهيم والحقائق، وعليه؛ فهو أكبر منها!
ثم تبلور مفهوماً اجتماعياً يقول: "الجميع على حق"، ومن الخطأ تخطئة الآخرين مهما كانت الأدلة، ومهما كانت الحاجة للإصلاح، وإن كان ثمة خطأ في السلوك او التفكير، فانه صاحبه مسؤول عنه لا غيره.
وعندما نضع أقدامنا في طريق المشاة الى زيارة أربعين الامام الحسين، عليه السلام، نجد أن الاضواء الساطعة من النهضة الحسينية لا تدع زاوية صغيرة ومظلمة في النفس البشرية إلا و أضاءتها بالتصحيح والتصويب والإرشاد الى طريق الحق والفضيلة، وبشكل يبعث على الارتياح والانبساط النفسي، فاذا كان طوال الأشهر الماضية يفعل المنكرات، سيجد نفسه ينتهي بشكل عجيب عن كل افعاله الخاطئة، فهو لا يظلم، ولا يغش، ولا يسرق، ولا يكذب، بل يفعل العكس بملء إرادته؛ فيبذل ماله وجهده وفكره لخدمة دون مقابل، والسبب؛ إدراكه العقلي بأن ما كان عليه في السابق لا يتطابق مع ما عليه الامام الحسين من فضائل ومكارم، وما دامت الفضائل وقيم الحق كلها نابعة من الفطرة، فان الماشي الى كربلاء يسعى جاهداً للحفاظ على هذه الفطرة الجميلة من عواصف الرغبات والنزعات النفسية التي يعبر عنها القرآن الكريم بشكل دقيق بـ "الأهواء" لتغيّرها المستمر وعدم استقرارها على حال.
كيف السبيل؟
اعتقد جزماً أن من بركات النهضة الحسينية علينا توفرها على أكثر من فرصة ذهبية للتغيير الذاتي وبشكل إرادي محض، متمثلة بالمناسبات الدينية على مدار السنة، بيد أن الفرصة الأكبر صادرة من الامام الحسين، عليه السلام، فنحن نشهد المشاركة المتنوعة من افراد المجتمع في مجالس الاستماع للفكر الحسيني، واللطم، والطبخ للزائرين، وسائر اشكال الشعائر الحسينية، وأخيراً –وربما ليس آخراً- في الخدمات المتنوعة على طريق المشاة في زيارة الاربعين، نجد مختلف المستويات حاضرة، وليس ثمة اقتصار على الملتزمين دينياً، او التقاة، او المثقفين والعارفين ببواطن النهضة الحسينية، إنما من شريحة واسعة في المجتمع كانوا بالأمس القريب يعدون "الموبايل"، وما فيه من مواقع تواصل، وألعاب، ووسائل لهو وإثارات غرائزية، هو متنفسهم الوحيد، والذي ينسيهم همومهم ومشاكلهم، أما هذه الايام، فان المواكب الخدمية والتوجه الى كربلاء المقدسة سيراً على الاقدام، هو المتنفس الأكبر والمفرّج عن الهموم والمشاكل، بل من خلالها يمكن صياغة الحلول، وهذا ممكن من خلال ثلاث خطوات مقترحة:
الأولى: التأسّي بالإمام الحسين وأهل بيته، والتأمّل والتدبر في أسئلة كبيرة طالما بحث فيها العلماء، ونحن ايضاً نحذوا حذوهم؛ لماذا استرخص الامام الحسين دمه، ودماء ابنائه وأهل بيته؟
ولماذا اصطحب ابنه الامام السجاد معه في هذه الرحلة رغم مرضه؟ او ربما كان بالامكان عودته في الطريق؟
ولماذا اصطحب النساء والاطفال؟ ربما كان يختار منهنّ المتجلّدات مثل؛ السيدة زينب، ويترك زوجته مع طفلها الرضيع، وايضاً؛ اطفال صغار من أهل بيته؟
ولماذا سقى الامام الحسين، الحر الرياحي مع ألف فارس، الماء في ذلك الموقف التاريخي الحاسم، رغم حاجتهم الى الماء، ومعرفته، عليه السلام، بان مهمة الحر أساساً إبعاده عن الماء، وأن العطش قادم لا محالة؟!
وثمة أسئلة أخرى تتعلق بطريقة تعامل الامام السجاد، وعمته العقيلة زينب، سلام الله عليهما، مع الطغاة، ومع مجتمع الخذلان والتضيل آنذاك، هذه وغيرها تمثل اجاباتها منهجاً متكاملاً لحياة قائمة على القيم والفضيلة.
الامام الحسين، عليه السلام، صانع قضية ونهضة شاملة، ولم يصنع المأساة التي أوجدها جيش ابن سعد، مما ينبغي علينا التأسّي به، ومحاولة تطبيق ما عندنا من سلوك ونمط تفكير وعادات وقناعات مع ما عند الإمام، عليه السلام، بما نتمكن من توسيع نطاق الاستيعاب والفهم والايمان، وخلق توقعات ذهنية باحتمال تعرضنا لمواقف مشابهة لما تعرض له الامام الحسين يوم عاشوراء، وايضاً؛ للمواقف التي وقفها أهل بيته في الكوفة والشام، وما لاقوه من استفزاز، وتنكّر، وظلم.
ولعل أبرز تلك المواقف المضيئة؛ قراءة القرآن الكريم، والصلاة في وقتها، وهو ما حصل في ظهيرة عاشوراء، بينما كانت السهام تنهال على اصحاب الامام، عليه السلام، فهو لم ينس الصلاة، وقد أداها مع بعض اصحابه، وقبلها في ليلة عاشوراء، تفرّغ لقراءة القرآن، وعلى النهج ذاته، كان ولده الامام زين العابدين يتخذ من القرآن الكريم وسيلة لنشر الوعي وإصلاح الأمة أمام من كان يستفزه ويشمت به، فتحول خلال لحظات الى موالٍ لأهل بيت رسول الله.
الثانية: التسامي على المشاكل الصغيرة في الحياة اليومية، والتطلع الى العواقب، والى المستقبل، فالتشبث بالحرفيات والتفتيش في الجزئيات بدعوى وضع كل شيء في نصابه، وألا يفلت المخطئ من المحاسبة! تجعلنا في دوامة الشد والجذب مع هذا وذاك، مما ينعكس سلباً على الحالة النفسية، ثم تغييب فرص التفكير بالتغيير الذاتي للتفرغ في تغيير الآخرين.
الثالثة: النظر في فوائد هذا التغيير، وما يتركه من آثار ايجابية على حياته اليومية في قادم الايام، له شخصياً، ولمحيطه الاجتماعي، مما يخلق له حاجة نفسية تدفعه لتحقيق التغيير.
أجواء المشي لزيارة الاربعين لا تتكرر إلا مرة واحدة في العام، فهي ليست مثل سائر الزيارات المليونية للإمام الحسين، عليه السلام، في مدينة كربلاء المقدسة، للأهمية البالغة التي يوليها المؤمنون لهذه الزيارة أولاً؛ ولعلاقتها بالنهضة الحسينية- العاشورائية ثانياً، فربما يمكن تشبيهها بالشمس الساطعة على كل أرجاء الكرة الارضية، يبقى من يستفيد بشكل أفضل وأكبر في هذه البقعة من الارض او تلك، ومن يتجاهلها تماماً كما لو أنها غير موجودة!
اضف تعليق