درس عاشوراء الذي نستعيد ذكراه كل سنة في شهري محرم وصفر، لا ينبغي أن يمر بطريقة آلية أو شكلية، بل لابد من تحويل هذه الذكرى الخالدة إلى مخرجات تتناسب مع القيمة العظمى لها، فإذا كانت ثورة الطف قد ألهمت الجميع، وغيّرت طواغيت السياسة، وهزت عروش الظالمين، فإنها قادرة على أن تنهض بالمجتمع...
ها هم المسلمون يعيشون شهرا جديدا وسنة جديدة من التاريخ الهجري، ويستعيدون مجددا أحداث الطف، وما وقع في هذا الشهر من حيف وظلم على أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهم أبناؤه وامتداده النبوي المبارك، ورغم مئات السنين التي مرّت على الجريمة يزيد النكراء بحقّ الإمام الحسين (عليه السلام) سبط الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله، إلا أن المخرجات التي أنتجتها الطف لا تُمحى ولن تزول لأسباب كثيرة، أعظمها أصالة هذه الواقعة العظمى.
لذا فإن الطف قدّمت للمسلمين، ولطائفة الشيعة، دروسا عظيمة معروفة لهم، تبدأ بدرس التضحية العظيم من أجل استرداد سلامة الإسلام، وسحبه من مسالك الانحراف إلى الجادة السليمة التي رسم مسارها نبي الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، و واصل أئمة أهل البيت المسار في هذا الطريق النبوي الإسلامي المعتدل.
هذا ما سار عليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خريج المدرسة المحمدية بامتياز، مستلهما الدروس والمعارف والعلوم التي أخذها على يد أستاذه ومعلمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فكان الحق قيمة عليا عند الإمام، وكانت العدالة هي المعيار الأول والأهم الذي يتم التعامل به مع جميع الناس بغض النظر عن هويتهم أو انتمائهم.
فالمسلم لا يعلو على النصراني في الحقوق والمستحقات، والجميع تحت مظلة الإسلام سواسية، لا توجد طبقية ولا تفضيل، ولا محسوبية، وهذا هو الدرس الأعظم الذي رسّخته مدرسة الإسلام الحنيف، وبان جليّا و واضحا في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله)، واستمر هذا المنهج في حكومة الإمام علي (عليه السلام).
سبل ترصين البنية الاجتماعية
بهذه المبادئ العظيمة تم ترصين البنية الاجتماعية والأخلاقية في دولة الإسلام، وتم بناء منظومة راقية من القيم السليمة، وهكذا في غضون عقدين من السنوات تم بناء أعظم دولة إسلامية تفوقت في عهد قائدها الأعظم على أمم كثيرة كانت تتصدر المشهد العالمي آنذاك، وهذا التفوق لم يكن في القوة المادية، وليس هذا هو الهدف الأول منها، بل التفوق حصل في الجانب المعنوي والروحي والإنساني، حيث صار الإنسان المسلم يتقدم الجميع بأخلاقه والتزامه و وعيه وعلمه وحرصه على الالتزام بواجباته والتميّز في تعامله الإنساني.
هذا التغيير الاجتماعي للقيم والأخلاق الذي أحدثته النهضة الإسلامية في بواكيرها، هو الذي ميز المسلمين عن غيرهم في البناء والتفرّد على مستوى الشخصية والوعي والتفكير والإنتاجية العالية، ولكن حين انقلب يزيد وحاول تحريف الإسلام، وتغيير الأطر الأخلاقية للمجتمع، وعاث فسادا في السلطة وجرّ الأمة كلها نحو الفسق وتدمير القيم والأعراف الاجتماعية، أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) ثورته الخالدة لوضع حد لهذا الانحراف.
هكذا رفع الإمام الحسين منذ اللحظة الأولى راية الحق، و وقف الاستبداد والمجون والفسق عند حده، وإعادة الروح الحقيقية للإسلام بعد محاولة يزيد وبطانته وأد الإسلام، وتغيير أهدافه، لذلك كانت ثورة الطف، وخرج الإمام الحسين عليه السلام للإصلاح في أمة جدّه، وهو (عليه السلام) أهل لإنجاز هذا الهدف العظيم، وهذا ما حدث فعلا عندما هُزَّت أركان النظام المستبد بقيادة يزيد المهووس بكل وسائل الانحراف والفسق والانحلال.
تجفيف بؤر التطرف والكراهية
الحسينيون اليوم تقع عليهم مسؤوليات كبيرة، لاسيما شريحة الشباب منهم، الشباب الحسينيون، هؤلاء عليهم اليوم أعباء كبيرة وكثيرة، وعليهم النهوض بها، خصوصا ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والبناء المجتمعي، البناء الأخلاقي والديني والعقائدي، وبناء الثقافة السليمة والوعي، وتجفيف بؤر التطرف والكراهية، وتدعيم قيم التعايش والتآخي فيما بين أبناء المجتمع الواحد، هذه القيم الأخلاقية الفكرية السلوكية لا يمكن بناءها في ليلة وضحاها، كما أنها لا تُبنى بالكلام وحده ولا بالوعود وحدها.
هذا النوع من البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع، يحتاج إلى أناس كبار في إيمانهم بالإمام الحسين عليه السلام، ومتعمقين بمبادئ عاشوراء، ومتمسكين بالقيم التي تبنتها ثقافة عاشوراء، وهؤلاء هم الشباب الحسينيون المؤمنون بقضية عاشوراء، ولهذا فإن من يتمكن من تجديد البناء الاجتماعي وترصينه وفق المبادئ الحسينية هم الشبيبة المؤمنون المخلصون الصادقون في نصرتهم للإمام الحسين عليه السلام.
درس عاشوراء الذي نستعيد ذكراه كل سنة في شهري محرم وصفر، لا ينبغي أن يمر بطريقة آلية أو شكلية، بل لابد من تحويل هذه الذكرى الخالدة إلى مخرجات تتناسب مع القيمة العظمى لها، فإذا كانت ثورة الطف قد ألهمت الجميع، وغيّرت طواغيت السياسة، وهزت عروش الظالمين، فإنها قادرة على أن تنهض بالمجتمع، وتضيء منظومة القيم الحسينية الخالدة، وتنشرها بين عموم الناس، لتملأ قلوبهم وعقولهم نورا وعلما وإيمانا وأخلاقا، ولكن هذا الهدف العظيم يحتاج إلى من يتبناه بعد أن يؤمن به.
وهذا بالضبط هو دور الشبيبة الحسينيين، إذ تقع عليهم مسؤولية استلهام قيم عاشوراء، وفهمها، ومن ثم العمل بها في تنظيم حياة الناس وعلاقاتهم ونشاطاتهم، ليس في هذين الشهرين (محرم و صفر) فقط وإنما يستمر تأثير الوعي العاشورائي الحسيني إلى ما بعد هذين الشهرين، وهذا الأمر يمكن أن يتحقق عندما نستلهم الدرس الحسيني الكبير استلهاما واعيا وصادقا مصدره الإيمان بمبادئ وثقافة ومدرسة عاشوراء.
اضف تعليق