تتعدد القراءات بين الباحثين والمهتمين بشأن ما يحدث في العراق ايام ما بات يعرف بزيارة الاربعين الحسيني، يجاول البعض قراءة الحدث الذي يمتد على مدار ثلاثة اسابيع من وجهة نظر السيسيولوجيا والأنثروبولوجيا، فالزيارة طقس ديني يحتشد فيه الملايين من جنسيات مختلفة، يوحدهم الرمز ويجتذبهم الحماس والانفعال والرغبة بالعطاء...
تتعدد القراءات بين الباحثين والمهتمين بشأن ما يحدث في العراق ايام ما بات يعرف بزيارة الاربعين الحسيني، يجاول البعض قراءة الحدث الذي يمتد على مدار ثلاثة اسابيع من وجهة نظر السيسيولوجيا والأنثروبولوجيا، فالزيارة طقس ديني يحتشد فيه الملايين من جنسيات مختلفة، يوحدهم الرمز ويجتذبهم الحماس والانفعال والرغبة بالعطاء، بلا حدود، يسعى السوسيولوجي الى قراءة الظاهرة الدينية – الاجتماعية في دوافعها واهدافها والممارسات التي تجري فيها، يبحث عن المردودات المختلفة المترتبة عليها وظائفها وانعكاساتها فرديا ومجتمعيا، بينما يذهب زميله الانثربولوجي الى قراءة النسق الثقافي والبينة الأولية التي تنتج طقسا ملحميا يقرن الحزن بالعطاء
والبذل بلا حدود، محاولا فهم الجذور المتينة المغذية لنمو واتساع الظاهرة الطقسية باندفاع كبير، رغم ما يحيطها من مثبطات وصعوبات وربما مخاوف وتهديدات.
صارت الزيارة المليونية مادة للتفكير والتأمل بين ساع إلى توظيفها ايجابيا دون قدرة على تفعيل مسارات هذا التوظيف، وبين متأمل مأخوذ بالدهشة والذهول مما يحدث، معتبرا ذلك نوعا من اليوتوبيا المؤقتة المتحققة في مكان وزمان محددين.
الاربعين الحسيني حدثٌ سنويٌّ ضخمٌ مليءٌ بالأسئلة متخمٌ بالدروس العملية، أنه مفارقة زمنية وسلوكية عما يسبقه وما يلحقه من سلوك اعتاد عليه الناس، فالحدث- الزيارة صار يوحد الناس مشاعريا ووجدانيا، يقارب بين التجمعات البشرية، يدفع إلى الانفاق والبذل بلا تحفظ، صار للزيارة اقتصادها ورأسمالها الخاص، بات السلوك الجمعي ينظّم نفسه بنفسه، بل صار بإمكانه الاستقلال عن الفعل الحكومي الرسمي تقريبا، بعبارة جامعة تحول حدث الزيارة إلى مؤسسة خاصة يديرها الجمهور بنسبة كبيرة بلا تدخلات، وُيستدل في ذلك على مقدار ما يتمتع به هذا الجمهور من مرونة وصبر وتفاعل اجتماعي هائل يجتذب اليه الراصدون والقارئون بشغف وحماس.
تنفض الزيارة بعد انتهاء موسمها، ويتنفس الجميع الصعداء، ويعود السؤال الكبير إلى الواجهة: اذا كنا قادرين على ادارة حشود مليونية بعمل تطوعي مذهل دافعه التجرد والاحتساب والثواب والجزاء الآخروي، فنحن أيضا نستطيع أن نتجند في ظرف معين لتحويل العطاء المكثف في أسابيع إلى عطاء دائم يجعل العراق مشروعا (حسينيا) للنهوض بذات الدوافع.
ما نحتاجه هو هندسة هذا المشروع وإعداد آلياته وخططه، عشرون مليون زائر ثلاثة رباعهم من الداخل يستطيعون زراعة عشرين مليون شجرة سنويا، لإنقاذ بلاد الحسين من التصحر والتغير المناخي كل شجرة باسم زائر، ويستطيعون اطلاق مشروع لبناء الطرق وسكك الحديد والمستشفيات والمدارس والمعامل الصغيرة والمتوسطة والمزارع وآلاف المشاريع، لتشغيل وايواء الفقراء والأيتام والأرامل، تُوقف باسم الحسين، ويُدار ريعها لرعاية فقراء الزائرين، بدلا من أن تترك إلى التبرعات المؤقتة، التي تذهب انفاقا استهلاكيا.
يحتاج الامر إلى تفكير جدي وادارة حديثة، تقود إلى بناء اقتصاد كاقتصاد شعيرة الحج والعمرة، تستطيع الشعوب تحويل المناسبة الدينية والمظاهر الطقسية إلى رافعة ثقافية- اقتصادية أخلاقية، تحفز النهوض والنمو وتستفيد من هذه الخصوصية الثقافية لإطلاق برنامج سنوي للإعمار والتنظيم والجمال والفعاليات الدينية والقيمية والانتاجية، ما تحتاجه فقط هو الفكر الخلاق، الذي يغير السلوك المؤقت إلى دائم ويحفز المشاعر لتغدو سلوكا منتجا مبدعا، إنها دعوة جادة إلى التغيير والنهوض استلهاما من هذا الذي يتحقق على أرض كربلاء كل عام، ما نغفل عنه نحن لا يغفله الاخرون، بل يطلقون بسببه عشرات الأسئلة ومثيلها من الاقتراحات والأفكار، للاستفادة من هذا (الكرنفال) السنوي لتطوير مستويات الأداء السياسي والخدمي والثقافي!
مجموعة لا بأس بها من السفراء الأجانب حضرت هذا العام إلى كربلاء لمعاينة قيم الإيثار والعطاء والمثابرة والكدح والتضحية، العالم مندهش من حولنا يتساءل كيف لهذا الشعب الذي يفشل في تنفيذ برامج صغيرة وحل مشكلات من النوع المتوسط، ويقضي الأيام في المناكفات والخطابات الاستهلاكية ويتعثر في الديمقراطية ويعيش اقتصادا ريعيا، لديه في الوقت ذاته كل هذه القدرات الهائلة، التي تستطيع أن تقلب واقع الحال وتضع العراق على سكة النهوض؟
أين الخلل؟، هل هو في الزعامات والأحزاب التي اخفقت في توحيد الناس وتوجيه هممهم نحو البناء؟، ام في المجتمع ذاته، الذي يخفق في إنجاب مثل هؤلاء القادة؟، أم في العجز الاجتماعي عن تحويل المبادرة الفردية إلى عمل مؤسسي جماعي؟، اين الخلل؟ هل هو في الثقافة؟ أم في التنظيم والادارة؟ أم في البناء النفسي والمزاجي للفرد الذي ينفق عشرين مليونا من الدنانير في أيام الزيارة لإطعام الزائرين واكثرهم من متوسطي الحال، لكنه يرفض أن يتبرع بخمسين ألف دينار في الشهر لسد حاجة فقير؟ آن الأوان للفكر العميق أن يتدخل لمعالجة هذا الخلل وتوجيه الناس نحو العمل المؤسسي الذي يستلهم الحسين أمة يبني لها مستقبلها.
اضف تعليق