أَرأَيتُم كيفَ يُفكِّر المُتخاذل؟! أَرأَيتم كيفَ يتحجَّج ليتهرَّب.. وما يُثير الشَّفقَة رُبما على المُتخاذلينَ هو أَنَّهم عادةً ما يدفعُونَ الثَّمن غالياً في نهايةِ معارِك الإِصلاح، فهُم يظنُّونَ أَنَّ الوقُوفَ على التلِّ أَسلم لكنَّهُم يكتشِفُونَ في نِهايةِ المعركةِ بأَنَّهم من أَكثرِ شرائحِ المُجتمعِ التي دفعت الثَّمن رغماً عنها...
إِنَّ أَخطر الشَّرائح الإِجتماعيَّة التي يُبتلى بها المُصلح هي شريحة المتخاذلِين، وهم الذين يعطُوهُ عهداً ثم ينقلبُوا عليهِ! والله تعالى يقُول {وَأَوْفُواْ بِٱلْعَهْدِ ۖ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولًا}.
ولكُلِّ مُتخاذِلٍ ذريعةً يتستَّر بها للهربِ من إِلتزاماتهِ وتعهُّداتهِ، تارةً باسمِ الدِّين وحرصِهِ على بَيضتهِ! وأُخرى بالخَوفِ على المذهبِ و [المُكوِّن الأَكبرِ] وثالثةً باسمِ الشَّرعيَّة وحفظِ النِّظامِ وتارةً بالخَوفِ والإِشفاقِ على المُصلحِ وحياتهِ! وهكذا.
في عهدِ رسولِ الله (ص) كانَ المُتخاذِلُونَ يتستَّرونَ بالحريمِ وأَنَّ بيوتهُم خاليةً من الرِّجال ولذلكَ فهُم يخافونَ الفتنةَ على نسائهِم إِذا غابُوا عنهُنَّ في حربٍ مع رسولِ الله (ص)!.
يُحدِّثنا عنهُم القُرآن الكريم بقولهِ {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}.
لقد فضحتهُم السَّماء، وفضحت دجَل ذرائِعهُم!.
آخرُونَ تذرَّعوا بالخوفِ من الوقُوعِ في فتنةِ النِّساءِ ليطلبُوا الأُذُن بالقعُودِ وعدمِ الخرُوجِ مع رسولِ الله (ص) {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّى وَلَا تَفْتِنِّىٓ ۚ أَلَا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌۢ بِٱلْكَٰفِرِينَ}.
قسمٌ ثالثٌ تخاذلَ بالتَّثاقُل {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْءَاخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}.
أَمَّا في عهدِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) فقد أَخذ التَّخاذُل مُنحنياتٍ عدَّةٍ ومدياتٍ واسِعةٍ، يجمعُها الهرَب من العهُودِ والوعُودِ التي كانُوا يقطعُونَها على أَنفسهِم مع أَميرِ المُؤمنينَ (ع) لينقلبُوا ويُغيِّروا ويبدِّلُوا بذرائعَ شتَّى، منها على سبيلِ الفرضِ لا الحصرِ كما يصفَها أَميرُ المُؤمنينَ (ع)؛
{فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ}.
فهذا أَوَّل التذرُّع [التذرُّع بالمناخِ].
{أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَنَهَاراً وَسِرّاً وَإِعْلَاناً وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ}.
وهذا ثاني التذرُّع [إِعطاء الأُذُن الصمَّاء لنداءِ المُصلحِ] وكأَنَّهُ يتحدَّث إِلى الحائطِ! كما يفعلُ [شيعة السُّلطة]!.
{فَيَا عَجَباً عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلَا تُغِيرُونَ وَتُغْزَوْنَ وَلَا تَغْزُونَ وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْنَ}.
وهذا أَسوأ التَّخاذُل، فعندما يُرمى المرءُ بسهمٍ ثم لا يثيرُ ذلكَ غضبهُ لانتزاعِ حقِّهِ من عدُوِّهِ، يكونُ بذلكَ أَقبحُ المُتخاذلينَ!.
أَمَّا الحُسين السِّبط (ع) فلقد كانَ في مُواجهةِ المُتخاذلينَ في كُلِّ خُطوةٍ خطاها نحو الإِصلاح منذُ أَن قرَّر رفض بيعة الطَّاغية يزيد إِبن الطُّلقاء وحتَّى استشهادهِ في كربلاء في عاشُوراء عام ٦١ للهجرةِ، مرُوراً بكُلِّ المنازلِ بالإِضافةِ إِلى ما جرى في الكوفةِ مع سفيرهِ وثِقَتهِ ومُعتمدِهِ إِبنُ عمِّهِ مُسلم بن عقيل بن أَبي طالبٍ عليهِمُ السَّلام.
ففي المدينةِ المُنوَّرة تذرَّعَ المُتخاذِلونَ بخوفهِم على السِّبطِ (ع) مِن غدرِ الأَمويِّينَ! فلَو كانَ الأَمرُ بيدهِم لمنعُوهُ من تركِ مدينةِ جدِّهِ حتى لا يُفتضَحُ أَمرهُم بالتَّخاذُلِ!.
وفي مكَّةَ المُكرَّمة تذرَّعَ المُتخاذِلونَ بالخَوفِ على الدِّينِ الذي كانَ يحتاجُ وجودهُم في الأُمَّة وإِلَّا فإِنَّ الأَمويِّينَ سينفردُونَ بهِ وبالتَّالي سيفعلُونَ كُلَّ ما بوسعهِم لتحريفهِ عن مواضِعهِ!.
وفي الكوفةِ تذرَّعَ المُتخاذلُونَ تارةً بعجزهِم عن مُواجهةِ جيشِ الشَّامِ! وأُخرى بكفايةِ العددِ الذي التحقَ بمُسلمٍ في مُواجهةِ الطَّاغية إِبنُ زيادٍ فلا داعيَ لإِلقاءِ النَّفسِ في التَّهلُكةِ.
وآخرُونَ تذرَّعُوا بأَنَّ النَّتيجة محسومةً سلفاً لصالحِ الأَمويِّينَ فلماذا نُورِّط أَنفُسنا في حربٍ خاسِرةٍ معلومةِ النَّتائج سلفاً.
أَمَّا أَقبح ذرائع المُتخاذلينَ قولهُم؛ إِنَّها خِصامٌ عائليٌّ بينَ الأَمويِّينَ والهاشميِّينَ فلماذا نزِجُّ أَنفُسنا فيهِ ونحنُ ليس لنا فيهِ ناقةٌ ولا جملٌ؟!.
آخِرُ المُتخاذلِينَ لَيلة عاشوراء كانَ قائد جيش الضَّلال عُمر بن سعْد بن أَبي وقَّاص الذي دار بينهُ وبينَ الحُسين السِّبط (ع) الحِوار التَّالي؛
ففي الرِّواية؛ أَرسلَ الحُسين إِلى إِبنِ سعدٍ: أَنِّي أُريدُ أَن أُكلِّمكَ فالقَني اللَّيلة بينَ عسكَري وعسكَرك.
فخرجَ إِليهِ عُمر في عشرينَ فارساً، والحُسين في مثلِ ذلكَ، ولمَّا التقيَا أَمرَ الحُسين أَصحابهُ فتنحَّوا عنهُ، وبقيَ معهُ أَخوهُ العبَّاس وابنهُ عليٌّ الأَكبر، وأَمرَ عُمر أَصحابهُ فتنحَّوا عنهُ وبقيَ معهُ إِبنهُ حفص وغلامٌ لهُ يُقالُ لهُ لاحِق.
فقالَ الحُسين لابنِ سعدٍ؛ ويحك أَما تتَّقي الله الذي إِليهِ معادُك؟! أَتُقاتلني وأَنا ابنُ مَن علِمتَ؟! يا هذا! ذَر هؤُلاء القَوم وكُن معي، فإِنَّهُ أَقربُ لكَ من الله.
فقالَ لهُ عُمر: أَخافُ أَن تُهدم داري!.
فقالَ الحُسين: أَنا أَبنيها لكَ!.
فقالَ عُمر: أَخاف أَن تُؤخذ ضَيعتي!.
فقالَ الحُسين؛ أَنا أُخلفُ عليكَ خيراً منها من مالي بالحِجاز.
فقالَ عُمر: لي عِيالٌ أَخافُ عليهِم! فقالَ الحُسين: أَنا أَضمِنُ سلامتهُم.
ثمَّ سكتَ فلَم يُجبهُ عن ذلكَ، فانصرفَ عنهُ الحُسين وهوَ يقولُ: مالكَ، ذبحكَ الله على فِراشِكَ! وأَضافَ (ع)؛
يا عُمر؛ أَنتَ تقتُلني وتزعَم أَن يُولِّيكَ الدَّعيَّ إِبنَ الدَّعِيِّ بِلادَ الرَّي وجُرجان! والله لا تهنأ بذلكَ أَبداً عهداً معهُوداً فاصنع ما أَنتَ صانِعٌ فإِنَّكَ لا تفرح بعدي بدُنيا ولا آخِرة و كأَنِّي برأسِكَ على قصبةٍ قد نُصِبَ في الكوفةِ يتراماهُ الصِّبيان.
أَرأَيتُم كيفَ يُفكِّر المُتخاذل؟! أَرأَيتم كيفَ يتحجَّج ليتهرَّب عندما لَم يحِر جَواباً؟!.
وما يُثير الشَّفقَة رُبما على المُتخاذلينَ هو أَنَّهم عادةً ما يدفعُونَ الثَّمن غالياً في نهايةِ معارِك الإِصلاح، فهُم يظنُّونَ أَنَّ الوقُوفَ على التلِّ أَسلم لكنَّهُم يكتشِفُونَ في نِهايةِ المعركةِ بأَنَّهم من أَكثرِ شرائحِ المُجتمعِ التي دفعت الثَّمن رغماً عنها لأَنَّها كما قالَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {فِي الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْقِتَالَ مَعَهُ؛ خَذَلُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ}.
وبقراءةٍ سريعةٍ لحالِ الكُوفةِ والمدينةِ المُنوَّرةِ بعدَ عاشُوراء ستكشِف لنا بعض جوانبِ هذه المُعادلةِ - الحقيقةِ!.
لا تدري ما الذي يُريدونهُ، يحتجُّونَ على الواقعِ المُزري والمريض [٢٤] ساعة، لكنَّهُم في نفسِ الوقت عاجِزُونَ عن فعلِ شيءٍ لتغييرهِ، وإِذا انبرى أَحدٌ لإِصلاحهِ شنُّوا عليهِ حمَلات التَّسقيطِ والتَّشويهِ! لِماذا؟! لا تدري!.
إِنَّهم التَّائهُونَ الذين يتشبَّهُونَ بتيهِ بني إِسرائيل الذي قالَ عنهُم القرآن الكريم {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
أَتمنَّى أَن لا تكونَ [٤٠٠] سنة!.
اضف تعليق