نقش مُطرَّز بالدم، ولكنَّه مُطيَّب بعبير البطولة القاصدة تحديد معنى البطولات في دنيا الإنسان، فلنُرافقه مِن مَكَّة إلى كربلاء، مُشاهدين نمتصُّ عريناً، ونمتصُّ التخاذل فينا، ونمتصُّ شَذا البطولة وهي تدعونا إلى كلِّ إباء يجمعنا إلى حقيقة الذات ـ ذاتنا الاجتماعيَّة ـ يا للغبطة! الحسين وهو يُحقِّق ذاته فينا...
وكربلاء، إنِّي أتمثَّلها الخشبة العريضة، التي عرضت فوقها مشاهد الملحمة التي كان نجمها الكبير، وبطلها الأوحد، الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، الذي صرفنا مجهوداً مُطيَّباً به، ونحن نستنزف النفس والأوصال في تتبُّع سيرته المليئة بأسرار الذات، وعُنفوان النفس، والمنسولة نسلاً مِن كلِّ عبقريَّة يقترن بها تَوْق الإنسان، فيقتنص له منها جناحاً يطير به إلى سماوات أُخرى، تجعله قطباً مِن الأقطاب الذين يعتزُّ بهم وجود الإنسان.
والملاحم، إنَّها نادرة في الشوق والتطبيق، لهذا بقيت حِصَّة مِن حِصص المُتشوِّقين إليها، وإنَّهم ما قدروا أنْ يُعالجوها ويُقدِّموا أنماطاً عنها إلاَّ في صنيع أدبيٍّ مُجنح بالخيال، هرقوا عليه جُهداً واسعاً، وسنوات طويلة في البحث، والتدقيق والتنقيح، حتَّى يجيء قريباً مِن الواقع الإنساني، إلاَّ أنَّه بقي تعبير عن واقع آخر لا يقدر الإنسان أنْ يحياه إلاَّ بشوقه وخياله وأحلامه ـ ان ملحمة الإلياذة تشهد لهوميروس كيف خصَّص عمره كلَّه لها، فإذا هي صنيع أدبيٌّ، شعريٌّ، خيالي، ليس فيه غير أبطال آلهة، خاضوا الأجواء كلَّها وربطوها بالميدان الأوسع، وأجَّجوا الصراع وألهبوه بالبروق والرعود، وبقي القرَّاء وحدهم المُشاهدين كيف يتمُّ زرع البطولات الخارقة، وكيف يتمُّ الانتصار في المعركة الإلهيَّة التي يُحاول أنْ يُقلِّدها الإنسان.
ما أروع الحسين!! يجمع عمره كلَّه ويربطه بفيض مِن مُعاناته، ويجمعه إلى ذاته جمعاً مُعمَّقاً بالحسِّ والفَهم والإدراك، فإذا هو كلُّه تعبير عن ملحمة قائمة بذاتها، صمَّم لها التصميم المُنبثق مِن واقعٍ إنسانيٍّ عاشه وعاناه وغرق فيه ـ
إنَّ الملحمة التي قدَّمها على خشبة المسرح في كربلاء، هي الصنيع الملحميِّ الكبير، ما أظنُّ هوميروس تمكَّن مِن تجميع مثله في إلياذته الشهيرة، هنالك أبطال اعتلوا الجوَّ خشبة لعبوا عليها، وهنا بطولة واحدة أتمَّت ذاتها بذاتها، فَذَّة في مَسراها، ومُصمِّمة في عزمها، وإنسانيَّة في قضيَّتها، وواضحة في أهدافها، وحقيقية في عرضها المُشاهد، وهي ـ بالوقت ذاته ـ مُركَّزة على ملحمة أُخرى أصيلة، هي التي قدَّمها جَدُّه العظيم ونفَّذها فوق الأرض وتحت السماء، فإذا هي ملحمة تنتصر بالإنسان فوق أرض الإنسان وتحت سماء الإنسان، لا خيال فيها، بلْ واقع إنسانيٌّ مَحض، لحمت الأُمَّة وعجنتها بعضها ببعض، في مُدَّة مِن الوقت لم تتجاوز عشرين يوماً، مِن أوَّل خُطوة خرج بها مِن مَكَّة، إلى آخر خُطوة خرَّ بها صريعاً في كربلاء العطشى وهي ضِفَّة مِن ضِفاف الفرات.
هل يجوز لنا وقد رافقنا الحسين سِتَّاً وخمسين سنة وهي كلُّ عُمره، أنْ لا نقفو خُطاه في البقيَّة الباقية مِن أيَّامه بيننا على وجه الأرض، وهي بقيَّة محفورة الخُطوات، مَشاها على فترة عشرين يوماً، فإذا هي نقش مُطرَّز بالدم، ولكنَّه مُطيَّب بعبير البطولة القاصدة تحديد معنى البطولات في دنيا الإنسان، فلنُرافقه ـ إذاً ـ مِن مَكَّة إلى كربلاء، ولنكُن ـ على الأقل ـ مُشاهدين نمتصُّ عريناً، ونمتصُّ التخاذل فينا، ونمتصُّ شَذا البطولة وهي تدعونا إلى كلِّ إباء يجمعنا إلى حقيقة الذات ـ ذاتنا الاجتماعيَّة ـ يا للغبطة! الحسين وهو يُحقِّق ذاته فينا.
*****
إيه يا حسين.
والقلم.
إنَّك بريت نفسك قلماً للصفحة الكبيرة!
مِن المُعاناة بَريتها!
ومِن بهاء الحقيقة!
ولبست لها حُلَّة البرفير!
وعلى النول الأبيِّ نسجتها!!!
يا للبطولة!!!
ظنُّوها شيئاً مِن متاع!
وقالوا: إنَّها جنون المُجازفة!!!
وهاجموك بها!
كأنَّك فوق ألف حصان!
واقتنصوك بعد ألف جولة وألف صولة!!!
وحزُّوا رأسك!!!
وداسوا بدنك!!!
كأنَّك الأوسع في الميدان!!
وما دروا أنَّك ما قهرت وما غلبت!
وإنَّك صِغت الملحمة!!!
يا للحقيقة!!
تأتزر بذاتها في مجال التحقيق!!
ويظنُّونها خيالاً مِن الوهم وضغثاً مِن الأحلام!!!
والملحمة.
إنَّها الحقيقة الكبيرة في النفس إذ تتجسَّد!
وتبقى وهْماً وحُلماً إذا تضنيها البلادة!!!
وصِغت الملحمة.
إنَّها القدوة في الرفض!
إنَّها العُنفوان!
تُعلِّم الإنسان كيف يرفض الذِّلَّ والهَوان!
وتُعلِّمه كيف يرزم أجياله في مُجتمع الإنسان!!!
يا لجَدِّك العظيم!! وأبيك المُئتَمِّ!!!
كيف ألبساك اللون وآزراك به!!!
فإذا أنت مِن جيل إلى جيل!!
ثورة تُعلِّم!!
وثورة تبني!!
وثورة تُهدِّم جدران الظلم!!
وثورة تبقى حيَّة في وجدان الأُمَّة!!
ووجدان الإنسان
اضف تعليق