لم يتحمل الأمويون مطلقاً تألق المرأة في ظل الاسلام، وتحولها من سلعة تباع وتشترى، و وسيلة للمتعة والتسلية، الى عامل قوة ورقم للتكامل الانساني كما أراده الله –تعالى-، فقد شقّ عليهم سماع كلمة اعتراض وانتقاد من المرأة على سياساتهم الفاسدة والجائرة، وتحولها الى أم وزوجة..
لم يتحمل الأمويون مطلقاً تألق المرأة في ظل الاسلام، وتحولها من سلعة تباع وتشترى، و وسيلة للمتعة والتسلية، الى عامل قوة ورقم للتكامل الانساني كما أراده الله –تعالى-، فقد شقّ عليهم سماع كلمة اعتراض وانتقاد من المرأة على سياساتهم الفاسدة والجائرة، وتحولها الى أم وزوجة وأخت ضمن النظام الاجتماعي في الاسلام، تضخ الدفء والروح، وتصنع التماسك، وتعبئ النفوس لعمل الخير، ولذا نجد شخصاً مثل معاوية الذي يعد أول من حمل راية الدفاع عن قيم الجاهلية والصنمية التي حطمها الاسلام، يسعى لإعادة المرأة الى عهد الجاهلية، ويتنكر لكل شهادات التكريم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله، فيأمر أغلظ رجاله بالاغارة على منطقة همدان -في ايران- وهو بُسر بن أرطأة على رأس قوة عسكرية فيقتلون الرجال ويعتقلون النساء ويرسلوهن سبايا الى الشام، وهو أول حادث سبي في الاسلام –حسب المصادر- كما فعل أحد أعوانه في الانبار من تسليب النساء، كما أشار الى هذه الحادثة أمير المؤمنين في خطبة له، وفي حادثة أخرى، تجرؤهم للمرة الاولى في الاسلام ايضاً بأخذ الزوجة بجريرة زوجها، عندما اعتقل زوجة الصحابي المعروف عمرو بن الحمق الخزاعي للضغط عليه لتسليم نفسه، وعندما عجزوا عن ذلك، واصلوا المطاردة حتى قتلوه وأتوا برأسه وألقوه في حجر زوجته!
هذه الحوادث وغيرها كثير وقعت في فترة تصاعد المد الأموي في الامة واستيلاء معاوية وأشباهه على منبر رسول الله، و صار أول مؤسس للنظام الملكي الوراثي في الاسلام، وبعد استشهاد أمير المؤمنين، والامام الحسن، ارتكب الأمويون جرائم فضيعة بحق المسلمين، ولاسيما المرأة المسلمة لإعادتها الى ما كانت عليه في الجاهلية لا تعد نفسها سوى مصدر للإثارة الجنسية.
كان لهذه المرأة التي أبى الله إلا أن تكون مُكرمة ونقطة ارتكاز في المجتمع والأمة، موعداً تاريخياً في أرض كربلاء (واقعة الطف) للتألق والظهور بقوة لتثبت أنها قادرة على صنع الاحداث، وتغيير مجرى التاريخ، وقد أجمع المؤرخون والعلماء والباحثون بأن النهضة الحسينية لم تكن لتصل الينا، ولم يكن لها هذا الصدى المدوي في العالم وعلى مر الاجيال، لولا وجود شخصية مثل السيدة زينب بنت أمير المؤمنين، والى جانبها ثلّة من النسوة المؤمنات والمخلصات ممن رافقن أزواجهن في قافلة الامام الحسين، عليه السلام.
اللقاء المدهش بين الإيمان والعاطفة
قبل أن نعرف كيفية وصول العقيلة زينب، ومعها النسوة الخَفِرات الى هذه القمة السامقة من الخلد في التاريخ وفي ضمير الانسانية رغم كل ما حصل لهنّ بعد استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، أجدني ملزماً بتبيين حقيقة تاريخية هامة فيما يتعلق بتفاصيل واقعة عاشوراء، فقد أحسن القول، سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي عندما قال ذات مرة: "ربما يكون ما لدينا من المشاهد والحوادث يوم عاشوراء بنسبة خمسة بالمئة لا أكثر"، بمعنى أن التاريخ لم يذكر لنا كل ما جرى في تلك اللحظات والساعات الاستثنائية، لاسيما ما جرى على نساء أهل بيت رسول الله، وعامة النسوة اللائي كنّ في الخيام، وكيف خرجن من الخيام بعد أحراقهن؟ وكيف ركبن النياق والجمال دون غطاء وبشكل جائر؟ و طبيعة تعامل أجلاف الجيش الأموي معهنّ طيلة فترة الطريق من كربلاء الى الكوفة؟ وما حصل في الكوفة؟ وفي الطريق الى الشام، و اسئلة كثيرة متشعبة من شأنها ان تعطي صورة أكبر لما قدمته المرأة في يوم عاشوراء من مواقف وملاحم بطولية، وايضاً؛ ما واجهته من مصاعب ومعاناة جمّة لا توصف، فنحن نتحدث معتمدين على القليل جداً من الوريقات التاريخية لرسم صورة تقرّب الى الاذهان تلك البطولات التي سطرتها المرأة العاشورائية.
تكفي الاشارة الى موقف انساني واحد لأم، أو زوجة لنعرف صلابة الإيمان وكيف كان القاعدة الاساس لاتخاذ الموقف وصياغة رد الفعل إزاء مشاهد مريعة مثل؛ استشهاد فتى صغير بعد استشهاد أبيه بلحظات، أو استشهاد شاب وقطع رأسه من قبل الاعداء ورميه بالقرب من أمه، أو لحظة معرفة الأم المرضع باستشهاد ابنها الرضيع بتلك الصورة المفجعة.
ولا أجدني بحاجة الى الحديث عن إيمان ويقين العقيلة زينب، عليها السلام، لانها ابنة أمير المؤمنين، وابنة الصديقة الطاهرة، فهي "عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة"، كما جاء في وصف الامام السجاد لعمته العقيلة، وهو ما جعلها تكون بمنزلة القائد من بعد الامام الحسين في إدارة القافلة بمن بقي من النساء والاطفال، والعناية بالامام السجاد، عليه السلام، الذي كان حينها يشكو من المرض، فجميعهنّ كنّ على علم بما سيحصل، من بينهنّ دلهم زوجة زهير بن القين التي حثته على إجابة دعوة الامام الحسين، والانضمام الى معسكره والاستشهاد بين يديه، وقد كانا يسيران بعيدين عن قافلة الامام من مكة باتجاه الكوفة.
وقد قرأنا عن نسوة في الكوفة كيف كان لهنّ الدور السلبي في فشل عملية الانقضاض على ابن زياد في قصره الذي حاصره مسلم بن عقيل بحوالي اربعة آلاف مقاتل، ولولا أن تقول الواحدة تلو الأخرى لابنها او زوجها او أخيها: "انسحب يكفيك الناس"! ربما كان عبيد الله بن زياد في عداد القتلى، ولكانت الاوضاع بشكل آخر، ولكن بث روح الجبن والخذلان هو الذي قلب المعادلة العسكرية وجعل مسلم وحيداً لا ناصر له ولا معين حتى استشهد دون أن ينصره أحد.
إن العاطفة في قلب المرأة "الكوفية" هي نفسها كانت في قلب المرأة "الكربلائية" فالمرأة هي نفسها في كل زمان ومكان، إنما الفارق في الإيمان الذي يكون على درجات، فهو الذي يميز بين البطل المقدام، وبين الجبان المتخاذل، وبين من يضحي من أجل القيم والمبادي، وبين من يضحي بكل شيء من أجل الامتيازات والشهوات، فلنا أن نتصور عمق إيمان تلك المرأة الارملة التي فقدت زوجها للتوّ، وقلبها يدعوها بشدّة للاحتفاظ بولدها الوحيد، وقد أعفاه الإمام الحسين من القتال، مراعياً مشاعر والدته، وأعاده الى الخيمة، ولكنها تنهض وتأخذ بيده الى الميدان وتطلب من الامام الإذن لابنها ويكون من أنصاره و يستشهد بين يديه.
العقيلة زينب.. الإعلامية
هنا ايضاً؛ يجب الاشارة الى شحّ التاريخ وخذلان المؤرخين لما غيبوه من مواقف وكلمات للعقيلة زينب، سلام الله عليها، منذ اللحظات الاولى بعد استشهاد الامام الحسين، وحتى أثناء الطريق، ثم وصولهم الى الكوفة وما جرى في قصر الإمارة، ثم مسيرهم باتجاه الشام، وما جرى في مجلس يزيد، مع ذلك؛ فما وصلنا بالامكان تشكيل صورة للشخصية الاعلامية من الدرجة الاولى والتي نقلت الوقائع والحقائق الى جمهور المسلمين في كل مكان خلال مسيرة السبي وإقامتها في منازل عديدة من البلاد الاسلامية، ويمكن الاشارة الى رسالتين –من جملة الرسائل الاعلامية- قدمتها العقيلة لمن كان بالقرب منها آنذاك وللآجيال:
الرسالة الأولى: الى أهل الكوفة بكشف حقيقة مآلهم وما صنعوه، وعدم المجاملة او المصانعة ومراعاة الظروف والمخاطبين، فقد ألهبت اسماعهم بتلك الخطبة العصماء التي بينت لهم حقيقة غدرهم ومكرهم وخذلانهم لأهل بيت رسول الله.
و يذكر المؤرخون أن أهل الكوفة كانوا بين حائر بماذا يجيبون، وبين باكٍ ونادم، بيد أن التقريع سبق مشاعرهم بالأسف غير المجدي حتى يعرفوا أن حياتهم بعد استشهاد الامام الحسين، لن تكون كحياتهم قبلها، وأنهم نصروا الباطل وخذلوا الحق، واذا اردنا معرفة مدى تأثير تلكم الخطب المدوية والتقريع المُر على نفوس أهل الكوفة، علينا متابعة سلوك أهل الكوفة مع الحكام من بعد ابن زياد، وحتى زوال الحكم الأموي، وظهور الحكم العباسي، فقد تحولت الكوفة الى منطلق للثورات الشيعية بوجه الحكام الظلمة.
والرسالة الثانية أطلقتها بكل قوة وصلابة بوجه الحكام الأمويين، مثل ابن زياد في الكوفة ويزيد في الشام، ولم تألوا جهداً في فضح حقيقتهم أمام الناس، و ادانتهم بالجريمة النكراء، هذا ما يتعلق بهم شخصياً، أما ما يتعلق بالناس المغرر بهم، ومن انطلت عليه الشرعية السياسية الزائفة، فقد استغلت العقيلة زينب تلك الحشود في مجالس الطغاة لأن تبين كل شيء للناس، ولم تدع لفرد العذر بعدم معرفة الحق وأهله، والباطل وأهله، حتى لا تتكرر تجربة المجتمع الشامي يوم وصول نبأ استشهاد أمير المؤمنين في محراب صلاته، بل إن غالبية أهل الشام- إن لم نقل جميعهم- كانوا يتصورون أن القتل والسبي هو العقاب المناسب لمن يقف بوجه الحكم الأموي متأثرين بالجهاز الاعلامي والدعائي الذي كان يوهم الناس بأن من كان في كربلاء هم جماعة خارجة عن الدين لابد من قتالهم، وانتهى كل شيء.
واذا اردنا ان نفهم طبيعة الدور الاعلامي لما قامت به العقيلة زينب، يكفي أن نلاحظ المقامات المتعددة في سوريا ولبنان ومصر التي تنسب الى قافلة السبايا، حتى أن المصريين يعتقدون أن رأس الامام الحسين، عليه السلام، له مقام عندهم، وايضاً ثمة مقاماً للسيدة زينب في العاصمة القاهرة، فخلال فترة السبي كانت العقيلة تبلغ وتنشر رسالة عاشوراء الى المسلمين لتوضح حقيقة ما جرى.
وهنا لابد من وقفة.
عندما نتحدث عن "العمل الاعلامي" في الوقت الحاضر، فنحن نتحدث عن مؤسسات ضخمة لها مراكز تخطيط وبرمجة، وشبكة مراسلين وجيش من الكتاب والمحررين، وميزانية ضخمة من أجل إيصال رسالة معينة الى الجمهور، أما اذا خصصنا القول في الجنس الانثوي في هذا الميدان، فلابد أن تتوفر شروط خاصة للمراسلة والصحفية لتنفيذ مهامها الصحفية، ولكن! بعد عاشوراء الحسين، كانت العقيلة، ومعها النساء في حالة لا يمكن تصورها، إلا مصطلح "السبي"، وهو كافٍ لظروف نفسية عصيبة، فلا احترامات، ولا مراعاة للمشاعر، بل العكس؛ كانت التوصيات المؤكدة من العاصمة الأموية بمزيد من التنكيل بالنساء بظنهم أنهم يعيدون القيم الجاهلية لإبقاء المرأة على مهانتها ووضاعتها حتى لا يكون لها دور في بناء المجتمع والانسان بما يهدد مصالح الفاسدين والمنحرفين، ولكن؛ النتيجة جاءت مفاجئة بانتصار هذه النسوة وفي المقدمة العقيلة زينب في معركة الاعلام ونشر الوعي، كما انتصر الامام الحسين في معركة الحق والفضيلة والايمان، واذا انتصر الامام بدمائه وتضحياته على سيوف الأموييين، فقد انتصرت العقيلة زينب بقوة منطقها وخطابها المباشر والدقيق على التضليل والتزييف.
اضف تعليق