q
لننظر الى أي مدى وعمق كانت الصداقة في معسكر الإمام الحسين، سواءً؛ بين الاصحاب وبين إمامهم ومولاهم الذي صحبوه للتضحية معه لأجل الدين والقيم، أو بين الاصحاب فيما بينهم، فهذا حبيب بن مظاهر الاسدي يجلس عند مسلم بن عوسجة وهو في الرمق الأخير، وقد أصيب بجراحات بليغة...

"ألا وأني لم أجد أهل بيت أبر من أهل بيتي ولا أصحاب أوفى من اصحابي".
الامام الحسين قبل ساعات من المعركة

يؤكد العلماء على مدخلية الصُحبة –وفق المصطلح القديم-، والصداقة حالياً، وبشكل مباشر في صياغة شخصية الانسان الفرد، ومستقبله، كما تترك آثارها غير المباشرة فيما بعد على المجتمع والأمة برمتها كونها تمثل أحد أركان العلاقات الاجتماعية.

وقد بحث المعنيون في أمر الصداقة لايجاد معايير وقواعد صحيحة تنظم هذه العلاقة بما يعكس الحالة الايجابية منها على المجتمع، ويحول دون ظهور الحالة المعاكسة التي تلحق الضرر بصاحبها، ومن ثم آثار هذه الحالة السلبية الى الآخرين.

ولعل أرقى وأنقى نموذج لعلاقة الصحبة والصداقة الحقيقية نجدها في النهضة الحسينية منذ الساعات الاولى لانطلاقتها وحتى نهاية الملحمة واستشهاد الامام الحسين مع ابناءه واصحابه، فقد صحب الإمام في لحظة انطلاقه من مدينة جدّه، ثم من مكة المكرمة، حوالي ألف شخص، كلهم يعرفون الامام، ويعرفون منزلته وقرابته من رسول الله، ثم بايعوه للخلافة في ضوء رسائل البيعة المتكاثرة التي وصلت للامام الحسين، ولكن! حينما وصل الامام الحسين الى أرض كربلاء، حيث الواقعة والمواجهة الحاسمة، لم يبق من هؤلاء سوى اثنان وسبعون، او اكثر قليلاً حسب اختلاف الروايات التاريخية.

هل الصداقة عقد مؤقت؟!

يفترض أن تستمر الصداقة بين اثنين او اكثر لفترات طويلة، وربما مدى الحياة، كونها تعقد صلات في جوانب عديدة بالحياة، مما يجعل الصديق مثل الأخ الشقيق داخل الأسرة الواحدة، ولعل هذا مصداق حديث أمير المؤمنين، عليه السلام: "رب أخ لم تلده أمك"، فتكون هذه الصداقة اسمّاً على مسمّاه، تجسيداً للوفاء، والنصيحة، والتضحية، والعطاء، والصدق، والأمانة، والرحمة وكل القيم الاخلاقية.

وهذا تحديداً ما يتحسّر عليه الجيل الحاضر بعد التراخي الملحوظ في هذه الصلات الاجتماعية الى حد التباعد والانفصام، ليبقى من الصداقة اسمها فقط، والعلاقات بين الافراد قائمة على المصلحة، ومحكومة بظروف زمانية ومكانية، واعتبارات معينة لا تترك مجالاً كبيراً لتلكم القيم مهما كانت مقدسة، او مهمة لحياة الانسان، لذا بات الكثير في المجتمع يستشعر الغربة والوحدة نفسياً، رغم أنه مزحوم بشبكة واسعة من العلاقات في الدائرة الحكومية، والسوق، والجيران، واصدقاء الجامعة، بيد أن هذه الشبكة لاتعدو أن تشبه الى حدٍ كبير شبكة العنكبوت الواسعة والجميلة، وفي نفس الوقت؛ المهزوزة والمعرضة للانهيار في أي لحظة، والسبب في أن هذا النوع من العلاقات تفتقد الى الروح والمعنى الذي يعطيها حرارة البقاء وعوامل القوة، هذه الروح تأتي من الصفات التي يحملها الصديق الى صديقه، "فبما أن الصديق له الكبير على الانسان، فلابد ان يختار من تكون تأثيراته محمودة، فالواجب ان لا نبحث عن الصديق، وانما عن الصفات التي يحملها الصديق، وهي الصفات التي نحتاج اليها، ومنها: العلم، والحكمة، والعقل، والخير والفضيلة"، (الصداقة والاصدقاء-آية الله السيد هادي المدرسي)، وقد حذر العلماء من "الحالة الميكانيكية" للعلاقة بين الافراد المفعمة بالحركة وتبادل المصالح، والخالية من المشاعر الصادقة والأفق البعيد.

الى هذا فطن أشخاص مثل حبيب بن مظاهر الأسدي، وعابس الشاكري، و وهب (المسيحي)، و جون (مولى ابي ذر الغفاري)، وغيرهم من صفوة الأصحاب يوم عاشوراء، ولمن يراجع سيرة هؤلاء، يجد أن شروط الصحبة والصداقة الحقيقية كانت متوفرة لديهم، فقد تجاوزوا عامل الزمان والمكان والظروف الحاكمة، فشخصٌ مثل عمر بن سعد، كان يعرف الامام الحسين منذ الطفولة، وهو يقول بلسانه: "حسين ابن عمّي والحوادث جمّة"، ولكن هذه المعرفة والصلة القريبة لم تشفع له في أن لا يكون أول من يرمي السهم على مخيم "ابن عمّه" إرضاءً لسيده؛ عبيد الله بن زياد، بينما الحر الرياحي، الذي ربما لم يعاشر الامام الحسين لفترات طويلة، وكان أحد قادة الجند في جيش ابن سعد، ولكن اختياره الصحيح في اللحظة الاخيرة والحاسمة جعله يكون من الخالدين الابطال، ومضرب للمثل الأعلى في مسألة التغيير الذاتي من الباطل الى الحق.

لننظر الى أي مدى وعمق كانت الصداقة في معسكر الإمام الحسين، سواءً؛ بين الاصحاب وبين إمامهم ومولاهم الذي صحبوه للتضحية معه لأجل الدين والقيم، أو بين الاصحاب فيما بينهم، فهذا حبيب بن مظاهرالاسدي يجلس عند مسلم بن عوسجة وهو في الرمق الأخير، وقد أصيب بجراحات بليغة، والاثنان يمثلان ثنائي خاص بين الاصحاب، في المنزلة الاجتماعية، والسابقة الايمانية، والفقاهة في الدين، والولاء لأهل البيت، فكانا سويةً في كثير من الامور، ومن ثم؛ كانا معاً في الخروج من الكوفة ليلاً –رغم اجراءات الحظر الأموي- ليلتحقا بالامام الحسين، هنا حبيب يخاطب صديقه المقرّب، بأن "لولا أني في الأثر لأحببت أن توصيني بما تحب"، فمع علم حبيب بانه لاحق بصديقه بعد لحظات، إلا ان الصداقة تلزمه بأن يكون منجزاً لوصايا صديقه بعد استشهاده، فكانت الكلمات المضيئة والخالدة لمسلم بأن "أوصيك بهذا"، مشيراً الى الامام الحسين الذي كان قريباً منهما؛ يسمع ويرى هذا المشهد الايماني والاستثنائي في التاريخ الانساني.

معيار الصداقة الحقيقية

ربما نجد نماذج من صداقات قوية ومتينة بين الافراد، يسعى بعضهم لحاجات بعض دون حدود او قيود، بل حتى يكون البعض مستعداً للدخول في مواجهات عنيفة دفاعاً عن الصديق، كما يحصل في النزاعات العشائرية، او المشاكل بين من هو من هذه المدينة، او القومية، او تلك، فتكون النصرة والنجدة أمراً واجباً لا جدال فيه! ولكن؛ في كربلاء كان الوضع مخلتفاً تماماً، وإلا أيهما أقرب الى الإمام الحسين، عليه السلام؛ محمد بن الحنفية، وهو ابن أمير المؤمنين، وأخو الإمام –غير الشقيق- أم جَوَن –مثلاً-؟! والى جانب ابن الحنفية، هنالك رموز "كبار" مثل عبد الله بن العباس الملقب بـ "حبر الأمة" لما اعتمده المحدثون من احاديث عن رسول الله، على لسانه، وكان من المقربين من أمير المؤمنين، وآخرين يعرفون من هو الإمام الحسين، مع ذلك، ليس فقط لم يؤيدوه في الثورة على الحكم الأموي والانطلاق في مشروع الإصلاح في الدين، وهم يعدون أنفسهم من رموز الدين في المجتمع آنذاك، وإنما راحوا يسطرون النصائح للإمام بعدم الخروج الى العراق، ويحذرونه من مكر وخداع أهل الكوفة، كما نصحوه بعدم اصطحاب النساء.

النظرة السطحية في علاقة هؤلاء بالامام الحسين هي التي صنعت لهم قرارهم بالابتعاد عن قافلة الامام وعدم التفاعل معه بشكل غريب، فهم يعرفون أن جده، رسول الله، وأباه، أمير المؤمنين، وأمه الصديقة الزهراء، بيد أن الحلقة المفقودة في السلسلة العقدية، هي علاقة هذه القرابة بموقف وقرار الامام الحسين بالوقوف بوجه الحكم الأموي وانحرافاته الخطيرة وتهديده السافر للإسلام بما يحمل من قيم ومبادئ ونظام شامل للحياة، بينما من صحب الامام في قافلته حتى لحظة الواقعة، كانوا يؤمنون بأن نهضة الامام الحسين هي "امتداد لدعوة جدّه رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهي مستمدة من كتاب الله وسنّة نبيه"، (اصحاب الرسول أنصار ابن البتول- الشيخ هاشم الزيدي)، وليست فكرة خاصة بالامام كما كانوا يتصورون، ولذلك نلاحظ طريقة كلامهم ونقاشهم مع الامام الحسين، علماً أن الامام ألقى كل الحجج، و أوضح للجميع ما يريد فعله: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، وأسير على سنّة أبي أمير المؤمنين".

من المحزن حقاً أن يخسر الواحد منّا علاقة وطيدة عمرها سنين بسبب خلل في الرؤية والبصيرة، فيفقد صداقة وصحبة من يضمن له عاقبة محمودة، و يخسر فيها الدنيا و الآخرة، فالاصحاب الذين واكبوا الامام الحسين، كانوا خليطاً غير متجانس من الاشخاص في علاقتهم بالامام، فلم يكونوا جميعاً من امثال حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، ويزيد ين مغفل المذحجي، وجابر بن عروة الغفاري، وأمثالهم ممن صاحبوا أمير المؤمنين، ومن قبل رسول الله، وضربوا بالسيف بين يديهما، بل كان هنالك وهب (المسيحي) وجون (مولى أبي ذر) وأمثالهم ممن لم يكونوا على صلة وطيدة بالامام الحسين، ولكن كانت علاقتهم وطيدة بالله –تعالى- وبالاسلام، فجاءت صحبتهم للإمام على هذه القاعدة المتينة، جاء عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: "من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من اصفياء الله".

هذا النوع من الاساس الذي تقوم عليه الصداقة والصحبة ليس فقط يبقى محموداً لاصحابه في وقتها، وإنما يتحول الى نموذج للصداقة الناجحة على مر الاجيال، وهذا يفسر كيف أن شخصاً مثل الحر الرياحي صادق الامام الحسين في لحظات، يكون في مستوى حبيب بن مظاهر الاسدي الذي صاحب وصادق الامام طيلة حياته، والناس تزور الحر اليوم في مرقده المميز والشامخ، كما يزورون حبيب في مرقده المييز ايضاً، ويقف الزائرون اليوم وفي كل زمان ومكان ويسلمون عليهم على أنهم من اصحاب رسول الله، واصحاب أمير المؤمنين، وأصحاب فاطمة الزهراء، واصحاب الحسن المجتبى، ولذا فان من "يحب في الله ويبغض في الله يتحول الى ضمير في أمته، وتكون صداقته حميمة، ولا تشوبها الشوائب ولا تغيرها تبدل المصالح"، (الصداقة والاصدقاء- السيد هادي المدرسي)، ليس هذا وحسب، بل وندعو بالدعاء المأثور ذو الدلالات العميقة: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً"، فهل نكون مثلهم يا ترى؟

اضف تعليق