تتعدد تسميات مراكز القرار في داخل الانسان، منها؛ القلب، والنفس، والعقل، والضمير، كلها تُسهم في رسم طريق معين، وتخلق دوافع نحو عمل معين، وفي القرآن الكريم ثمة تحديد لمركز آخر للقرار يمثل البنية التحتية لفكر الانسان، وهو متقدم على ما ذكر، وهو؛ الفِطرة...
تتعدد تسميات مراكز القرار في داخل الانسان، منها؛ القلب، والنفس، والعقل، والضمير، كلها تُسهم في رسم طريق معين، وتخلق دوافع نحو عمل معين، وفي القرآن الكريم ثمة تحديد لمركز آخر للقرار يمثل البنية التحتية لفكر الانسان، وهو متقدم على ما ذكر، وهو؛ الفِطرة، فهو لا يقبل أن يكون ساحة صراع بين جانبي الخير والشر، والحق والباطل، لانه يرافق الانسان منذ لحظة ولادته ودخوله الى عالم الحياة الدنيا، فكما الانسان متكامل –على الاغلب- جسمياً، وصحيحاً في جميع تفاصيل بدنه، من الدماغ، والقلب، والأوعية الدموية، والغدد، والجهاز العصبي، والجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي، فانه من الناحية المعنوية، صحيح ايضاً بوجود الفطرة السليمة والنقية؛ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، فاذا بقيت هذه الفطرة على طهارتها ونقائها طيلة حياة الانسان، فانها ستوجه العقل والقلب والنفس والضمير الى اتخاذ القرار بين الحب والكراهية، أو بين الحق والباطل، أو بين الايمان والكفر.
كربلاء وساعة الاختبار
عندما التقى الامام الحسين، عليه السلام، بالحر الرياحي للمرة الاولى وسط الصحراء، فيما كان يحثّ الخطى باتجاه الكوفة، وسمع من الحر القرار من القيادة الأموية بحبسه في المكان الذي هم فيه بعيداً عن شاطئ الفرات، عنّفه بالقول: "ثكلتك أمك يا حُر"! وهذه العبارة في ذلك الوقت كانت تمثل كناية عن طلب الموت والهلاك للطرف المقابل، فمن يسمعها لابد أن يرد عليها بنفس القوة، ولكن الحر في تلك اللحظة الحاسمة أحجم عن الرد وبقي ساكتاً، ثم قال للإمام: "وما أقول لك وأنت ابن فاطمة الزهراء"!
الجميع من أركان الحكم الأموي كانوا يعرفون الصديقة الزهراء، سلام الله عليها –فضلاً عن الناس العاديين-، وأنها ابنة رسول الله، وسيدة نساء العالمين، ولكنهم يتعامون ويتجاهلون مثل؛ عبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، والشمر وأشباههم، بيد أن معرفتهم كانت تختلف عن معرفة الحر، كما أن بيعة شخص مثل أبو ذر الغفاري، او سلمان المحمدي، او عمار بن يسار لأمير المؤمنين يوم الغدير، كانت تختلف جذرياً عن بيعة معاوية، وعمرو بن العاص، وطلحة وأمثالهم، فهؤلاء انطبق عليهم الحديث النبوي الشريف: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه".
وللفطرة مدخلية مباشرة في العملية التربوية داخل الأسرة التي ينمو ويشبّ فيها الطفل حتى يصبح شاباً يافعاً ثم رجلاً متكاملاً بعقله، وقلبه، وكل كوامنه، فالايمان بالله –تعالى- و تعظيم كتابه المجيد، وتقديس مراقد أهل البيت، عليهم السلام، والالتزام بالقيم والآداب والمفاهيم لن تأتي من فراغ لولا عوامل مؤثرة بشكل مباشر على صنع هذا الايمان والالتزام، منها: تجنب الأكل الحرام والمال الحرام، وأيضاً؛ وضع فلاتر –إن صح التعبير- على كل ما يسمعه الطفل ويراه في بواكير عمره لأن في قادم الأيام سيكون مسؤولاً عنهما: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً }، هذا فضلاً عن المكملات الفكرية والثقافية من شرح سيرة المعصومين، والتحدث دائماً عن قصص القرآن الكريم عن الأقوام البشرية السابقة وتجاربهم في علاقتهم مع الله –تعالى- وكيف عاشوا وكيف ماتوا، ولماذا لم يحققوا السعادة لانفسهم رغم ما قدموا من منجزات علمية باهرة، كما كان عليه الحال في مصر الفرعونية، حيث اكتشف العلماء –مما اكتشفوه في قبور الفراعنة- ما أثار دهشتهم البالغة بوجود تقنية تركيب الانسان في تلك الفترة التي كانت سابقة على ميلاد السيد المسيح حوالي أكثر من ألفي عام، مع ذلك، كانت نهايتهم كارثية رهيبة.
عندما يكون المحيط الأسري والاجتماعي لأطفال الكوفة مشحوناً بشتم أمير المؤمنين، والعداء لأهل البيت، وتفسير الآيات القرآنية النازلة في حق أمير المؤمنين على أنها في حق اشخاص مثل معاوية، وإلصاق احاديث كاذبة برسول الله ظلماً وعدواناً بما يكرس واقع الخنوع والاستسلام للظلم والطغيان والانحراف، فمن الطبيعي أن ينسحب الشباب، وبكل سهولة، و يمرقوا كما يمرق السهم من كبد القوس، ويتسببوا في انهيار جيش مسلم بن عقيل، وهو قاب قوسين أو أدنى من رأس ابن زياد واقتحام القصر وإنهاء الأمر، و لينقلب ميزان القوة بشكل مفاجئ على أبواب قصر الإمارة بالكوفة لصالح الأمويين، ويحصل ما حصل، ومن ثمّ تكون بوصلتهم باتجاه قتال الامام الحسين، وليس نصرته والوفاء ببيعتهم له، والسبب يكشفه الامام الحسين لهم جهاً لوجه: {فَقَدْ مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرَامِ وطُبِعَ عَلى قُلُوبِكُم، وَيْلَكُم، أَلَا تَنصِتُونَ}؟!!
حسبنا كتاب الله وحسبنا "الانسانية"!
يتحدث البعض عن اكتفاء الانسان في بوصلة قراره بالحياة أن يكون "انساناً" ويتبنى "الانسانية"، ويزعمون "أن وجود الانسان سابق على الماهية"، وأنه قادر على تحديد الحق من الباطل، والصحيح من السقيم، والقبيح من الحسن، من ذات نفسه، ولا حاجة لعوامل أخرى تساعده على ذلك مثل؛ النصيحة، والهداية، والبلاغ، والإرشاد التي جربتها أقوام بشرية في التاريخ وأثبتت نجاحها مثل قوم يونس الذين تميزوا عن سائر الاقوام بالنجاة من هلاك محقق كاد أن يطبق عليهم من السماء عندما تابوا وأنابوا الى الله –تعالى- في القصة المعروفة.
وعليه؛ فان الذي لا يكذب، ولا يسرق، ولا يختلس الاموال، ولا يتسبب في إيذاء الآخرين هو مثال الانسان الصالح والمفيد في المجتمع، ولا حاجة لأن يكون مؤمناً بأحكام وقوانين نازلة من السماء، فهو "نبي نفسه"! ولكن! هل نجحت هذه الفكرة في أن تفيد هذا الانسان بشيء في حياته؟
لو عدنا قليلاً الى أهل الكوفة الذين قاتلوا الإمام الحسين بعد أن تنكروا لبيعته، لاسيما شيوخ القبائل ووجهاء القوم، تذرعوا بما تفوّه به شخصٌ أسس للفتنة في كيان الأمة في الساعات الاخيرة من حياة رسول الله، بأن "حسبنا كتاب الله"، فالقرآن الكريم الذي ادعوا التمسك به دون العترة الطاهرة لهو أكبر وأعظم مما توصل اليه المفكرون في الزمن الحديث، وهو كتاب منزل من السماء، وليست كلمات من تصورات البشر، مع ذلك، لم يشفع لهم هذا النمط من التفكير في النجاة من الخسارة العظمى التي اكتشفوها بعد ساعات من انتهاء المعركة باستشهاد الامام الحسين واصحابه وأهل بيته، وحرق خيامه وسبي نسائه، وعرفوا أن الامام الحسين هو الذي انتصر في المعركة، فيما لحقت بهم الهزيمة النكراء، حتى أنهم لم يقبضوا ما وعدوا به من جوائز من ابن زياد، ومن النظام الأموي الذي اتخذهم حطباً لنار أشعلوها ليقفوا هم بعيدين متفرجين، والسبب في كل ذلك؛ تكرارهم لتجربتهم البشعة في حرب صفين عندما خاطبهم أمير المؤمنين، محذراً من خدعة رفع المصاحف، وأن "هذا قرآن صامت وأنا القرآن الناطق"، فلم يستمع اليه أحد، وبقي أمير المؤمنين وحده في تلك الساعة التي يمكن عدّها بمنزلة قتل معنوي له، عليه السلام، وهو على وشك تحقيق النصر على جيش معاوية، فجاءت مكيدة ابن العاص لتنقذ الاخير من موت ونهاية مدوية للحكم الأموي.
ولذا نجد التأكيد من العلماء على وجوب الاهتمام بسلامة الفطرة في المرحلة العمرية الاولى وعدم تعرضها لما يلوثها، حتى تضمن البوصلة الدقيقة والصحيحة التي تأخذ بيد صاحبها الى شاطئ الأمان والسلام، وهذا لن يكون إلا بوجود منهج عملي متكامل في الحياة يقدمه لنا أهل بيت رسول الله، الى جانب القرآن الكريم، اللذان قرنهما رسول الله في حديث الثقلين، ومن هذا المنهج؛ النهضة الحسينية، وكل ما يرتبط بذكرى الامام الحسين، عليه السلام، في ايام عاشوراء وأيام زيارة الاربعين، فمن خلال الشعائر الحسينية تعرّف الكثير على المصاديق العملية للحرية، والعدالة، والكرامة الانسانية، ولمسوها بجوارحهم و مشاعرهم، وقد أشار الى هذه الحقيقة سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- بأن "لن تجدوا بين خدام الامام الحسين، ومن يحضرون المجالس الحسينية ويشاركون في الشعائر، بين اللصوص والفاسدين والمجرمين بين أسوار السجون"، ولم نسمع يوماً بأن أحداً من أحرز هذه البوصلة، توجه الى بناية شاهقة ليلقي بنفسه الى الارض، او انتحر شنقاً او حرقاً او غير ذلك مطلقاً، لأن بوصلة عاشوراء تهدي صاحبها الى الحياة وليس الى الموت.
اضف تعليق