q

الحديث يدور حول الصلاة في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام)، وما فيها من دروس وعبر وإضاءات، وإشارات ودلالات.

وقد تحدثنا في ما سبق عن أن الصلاة هي طريق الرحمة الإلهية في هذه المدرسة المباركة، كما أشرنا إلى أن الصلاة في هذه المدرسة النبوية هي الأصل، وهي المحور الذي تدور حوله كافة نواحي الحياة، وليست أمراً كمالياً كما يتعامل مع الصلاة الكثير من الناس.

فإن الكثير من الناس يتعامل مع الصلاة كشيء هامشي، أو كشيء مفروض عليه، وينبغي أن يتخلص منه، وليس شيئاً مرغوباً محبباً مطلوباً مشتاقاً إليه تدور حول رحاهُ الحياةُ.

وهو المركز والنقطة المركزية وما عداها المحيط، مع أن الصلاة في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) هي الجوهر، وهي الأصل، وهي الأساس، والعمود والعماد للخيمة، كما ورد (الصَّلَاةُ عَمُودُ الدِّين‏)([1]).

وقد جرى الحديث سابقاً عن الجانب الكمي للصلاة في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث إن الإمام كان يصلي في اليوم والليلة الف ركعة، وربما استمر ذلك لمدة (20 أو 30) سنة أو أقل أو أكثر.

الجانب الكيفي للصلاة في المدرسة الحسينية

أما الأن فسنعطف عنان الحديث إلى الجانب الكيفي في هذه المدرسة المباركة المعطاء، وهناك إشارات كثيرة لهذا الجانب، ومنها ما أشارت إليه الرواية:

فإن الإمام الحسين (عليه السلام) بعد صلاة المغرب، لم يكن يفعل كما يفعل عامة الناس، حيث إنهم غالباً ينصرفون إلى الراحة والاستراحة، أو إلى أعمالهم ومشاغلهم، ثم يأتون في وقت صلاة العشاء بعد حوالي ساعتين، ويؤدون صلاة العشاء.

بينما نجد الإمام الحسين (عليه السلام) ـ كما تؤكد الرواية ـ كان يجلس بعد صلاة المغرب في مصلاه، وينشغل بالصلاة المستحبة، الصلاة إثر الصلاة، حتى يحين وقت صلاة العشاء.

فسُئل عن سبب ذلك، فقال (عليه السلام): (إنها ـ هذه الفترة ـ من ناشئة الليل التي يقول الله سبحانه وتعالى عنها: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)([2])).

وفي استخدامه صلوات الله عليه (من) التبعيضية في (إنها من ناشئة الليل) دلالة هامة، ذلك أنه يوجد خلاف بين المفسرين حول معنى (ناشئة الليل)، فهل هي الليل بأكمله أو البعض منه؟.

وظاهر كلام الإمام (عليه السلام): إن الفترة ما بين المغربين هي من الناشئة، في إشارة إلى الآية القرآنية الكريمة: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)([3]).

وقد سُميت (الناشئة) بالناشئة؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، ولحظة بعد لحظة، لأن الزمان في حالة تجدد دائم. وقد ذكر بعض المفسرين، أن المقصود من (ناشئة الليل) هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار ـ كما عن ابن عباس، والمروي عن الإمامين الصادقين ـ كما نقله "مجمع البيان" هو أن ناشئة الليل هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل([4]).

ثم نجد في هذه الرواية أن الإمام الحسين (عليه السلام) يعدّ ما بين المغربين من ناشئة الليل، ولا مانعة جمع؛ فإن ناشئة الليل تعم جميع ذلك كله، ولا عبّر الإمام بـ (مِن)، ولعل الوجه في ذكر بعض الأوقات بعنوان أنها (ناشئة) أو (من الناشئة) أن هناك مراتب ودرجات.

فقد يكون لبعض درجاتها مزية، ويكون الوطء فيها أشد، ومثاله العرفي: ما لو رأيت جداراً ملوناً باللون الأخضر، لكن بعض مناطقه كانت أشد خضرة، فان الحائط كله أخضر في حين أن قسماً منه أشد اخضراراً.

ولنتوقف عند هذه الآية القرآنية الكريمة؛ لأن الإمام الحسين (عليه السلام) أحال إليها في فلسفة صلاته في هذا الوقت.

لماذا الصلاة في فترة الاسترخاء؟

لماذا ناشئة الليل؟ أي الصلاة بين المغربين هي أشد وطئاً، وأثقل على الإنسان؟.

الجواب: الأسباب تتنوع بين فسيولوجية، ونفسية، واجتماعية.

1- تدفق الميلاتونين وحالة الاسترخاء

ومن الأسباب الفسيولوجية، ما أشار إليه علماء الطب: إن بدن الإنسان يتعرض لجملة من التغييرات مع هبوط الظلام، ومع التغير الذي يلفّ الكون ويغمره، منتقلاً من النور إلى الظلام وعلى أثر ذلك:

أ-تبدأ مادة (الكورتيزون) بالتقلص في بدن الإنسان، وهي المسؤولة عن بث النشاط والحيوية في الجسم، وتسمى (هرمون النشاط).

ب-من جهة ثانية، تبدأ مادة (الميلاتونين) بالترشح بشكل أكثر كثافة في هذه الفترة بالذات، وهي المسؤولة عن توفير حالة الاسترخاء، وميل الإنسان إلى الراحة والاستراحة.

وهذه المادة إنما وجدت لحكمة الله سبحانه وتعالى، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا)([5])، وبناءً على هذه الحقيقة العلمية نلاحظ أن معظم الناس ـ وفي هذا الوقت بالذات ـ يخلدون إلى الاستراحة، ويميلون إلى الجلسات التسامرية، أو متابعة التلفاز، أو الانترنيت، أو غير ذلك، مما لا يتطلب عملاً وجهداً.

كما أن كثيراً منهم - خاصة الذين لم تتدخل التكنولوجيا في تغيير نمط حياتهم - يخلدون إلى النوم.

وفي هذا الوقت ـ وفي هذه الفترة تحديداً ـ يدعونا الإمام الحسين (عليه السلام) بعمله وبقوله إلى الصلاة فيها؛ لأنها أشد وطئاً، فإنها تنتزع الإنسان من الراحة، ومن الكماليات المادية إلى الأساسيات الروحية، وهذا هو الأصل في حياة الإنسان.

فإن الاصل في حياة الإنسان الروحانية والصلاة، وليس الراحة والاسترخاء.

2- تدفق الكورتيزون ومادة النشاط

وفي الاتجاه المقابل:

لاحظوا المفارقة بين الحالتين، إذ يقول العلماء: إن الإنسان مع طلوع الفجر تبدأ مادة (الكورتيزون) بالتدفق في بدنه بشكل متزايد، لذلك يشعر بحالة من النشاط والحيوية، بل نلاحظ أن المخلوقات كلها تستيقظ في هذا الوقت، بل حتى (غاز الأوزون) يبدأ بالتدفق في هذا الوقت، مما يسبب النشاط العضلي والعصبي، بينما عند المغرب يكون التدفق عكسياً لمادة (الميلاتونين)، التي تسبب للإنسان الميل للاسترخاء.

في هذين الوقتين بالذات، حبَّب الله سبحانه وتعالى لنا الصلاة، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) كآبائه وأجداده وأبنائه الطاهرين، في هذين الوقتين بالذات ملتزماً بالدعاء، والذكر، والعبادة، وقراءة القرآن الكريم، والصلاة.

وهذا ما يدفعنا للإيمان بضرورة أن نسلط الضوء أكثر على هذه النقطة الجوهرية، وهي محورية الصلاة في حياة الإنسان، وأن على الإنسان أن يتوجه إلى الصلاة، وهو في قمة النشاط.

كما عليه أن يتوجه إلى الصلاة أيضاً، وهو في حالة انحسار النشاط، وذلك حسب هندسة الله سبحانه وتعالى لبدن الإنسان.

وبمعنى آخر أن الإنسان وهو في أوج نشاطه عليه أن يرتبط بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو معطي الخيرات والبركات، وبيده مفاتيح الخير والرزق والسعادة، وبيده مقاليد السياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق وكل شيء، وكذلك عليه أن يتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وهو في أوج حالته الخمولية الذي تدفع البدن للاسترخاء.

والفائدة العظيمة التي يحصدها المرء من هذا العمل، هي القرب أكثر فأكثر إلى الله تعالى، وما أعظمها من فائدة! وهذا هو الدرس الذي يعلمنا إياه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو أيضاً ما يدعونا إليه ربنا سبحانه تعالى، حيث يقول: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا)([6]).

ومن المحبّذ أن يلتزم المرء بهذه الصلاة في هذا الوقت، ولو لمدة شهر واحد وبالتزام كامل، فسيلاحظ عندئذٍ مدى الصعوبة في ذلك، لكنه في الوقت نفسه يكون قد خطى خطوة كبيرة نحو القرب إلى الله سبحانه وتعالى.

الصلاة المستحبة أم قضاء حوائج الناس..؟!

وهنالك سؤال ربما يطرحه البعض:

أليس من الأولى للإمام الحسين (عليه السلام) بدل أن يصلي في هذا الوقت ساعتين كاملتين، أن ينقطع إلى خدمة الناس؟ أو أن ينقطع إلى هداية الناس وإرشادهم؟.

والسؤال عام، فإن الإمام الحسين (عليه السلام)، كما الإمام الرضا (عليه السلام)، والإمام السجاد (عليه السلام)، والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أي الأئمة (سلام الله عليهم) عادة كانوا يصلون لأوقات طويلة في اليوم والليلة ألف ركعة.

وألف ركعة يعني على أقل تقدير ألف دقيقة، وألالف دقيقة تعادل (16) ساعة و(40) دقيقة، وهذا وقت طويل جداً.

فقد يتساءل البعض: ألم يكن من الأولى أن ينصرف الإمام أو رسول الله J إلى خدمة الناس في هذا الوقت، وإلى تربية الناس؟!.

هنا إجابات عديدة على هذا السؤال، وهو سؤال دقيق والإجابة عليه أدق، وسنتطرق ها هنا إلى إجابتين فقط:

الإجابة الأولى: العلاقة بالخالق هي المحور الأسمى

إن الأئمة الهداة (صلوات الله عليهم) يريدون أن يوصلون إلينا أن الله تعالى هو المقصد الأسمى، وكل ما يملك البشر من قوى، وطاقات وأعمال، وأفعال وأقوال وأفكار، ووسائل وآليات، يجب أن تتمحور حوله تعالى، فإذا فهم البشر هذه المعادلة، فإنهم سيعيشون سعداء بالتأكيد.

إن غياب محورية الله تعالى من الحياة، هي التي تكون وراء كل النزاعات والحروب والفتن، التي تشهدها الدول والأحزاب والجماعات فيما بينها.

لذا تجد أنه ومن أجل دنيا زائلة، أو على قليل من النفط أو الذهب، أو السلطة، يُقتل عشرات الآلاف من البشر، وتنتهك الحرمات دون حساب.

وقد قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ)([7])، وجاء في الحديث الشريف: (الصلاة معراج المؤمن)، و(الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ)([8])، فإذا كانت الصلاة حقاً هي محور حياة البشر، لكان الجميع سعداء.

لذا نجد أن الإمام الحسين والأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم)، كانوا ملتزمين بالعبادة أشد التزام، وكانوا يصلون باليوم والليلة ألف ركعة، وهي ليست عملية سهلة بالمرة.

ليجرب أحدكم ذلك، وربما لن يتمكن الإنسان من الاستمرار عليها لشهر واحد، فكيف بشهرين! فكيف بسنة! ثم كيف بعشرين أو ثلاثين سنة!.

الإجابة الثانية: لقد كان الأئمة محاصرين

كان الأئمة الهداة (عليهم السلام) محاصرين من قبل الحكام الطغاة أينما كانوا، سواء كانوا في المدينة أم سامراء أم غيرهما. فلم يكونوا يسمحون لهم بلقاء الناس، وقد كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة([9])، كذلك كان يفعل الإمام الحسين (عليه السلام)([10]).

وهذه إشارة تكشف فيما تكشف عن أن السلطات لم تكن تسمح في كثير من الأوقات للناس بلقاء أئمتهم، أو إذا سمحت ففي حدود ضيقة.

وهناك روايات عديدة تتحدث عن أن معاوية منع أهل العراق من اللقاء بالإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا مصداق الآية القرآنية الكريمة: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)([11]).

وهذه دلالة أخرى على أن الظلم والجور كان مستشرياً، بدرجة أن حكام الجور لم يكونوا يسمحون للأئمة (عليهم الصلاة وأزكى السلام) بأن يلتقوا بالناس، وأن يفيضوا عليهم من علومهم، أو يقضوا لهم حوائج، أو حتى مجرد أن يلتقوا بهم.

كما أن الظاهر أن بعض الأئمة (عليهم السلام) كانوا أحياناً يبتعدون عن اللقاء بالناس، مخافة أن تتحسس السلطات على الشيعة فتلاحقهم، أو تزيد الضغط أكثر فأكثر على الإمام (عليه السلام).

ومع ذلك كله، وحتى في الوقت الذي كان الإمام في أجواء من الحرية النسبية، لم يكن ينسى الصلاة، بل كان يوليها بالغ الاهتمام، وكان يجهد نفسه لأدائها، بالرغم من مضاعفة مسؤولياته. فإلى جانب الانقطاع المذهل إلى الله تعالى، هنالك الانقطاع الهائل إلى الناس، والجمع بينهما يُعد عملاً مجهداً إلى أبعد الحدود.

والجميع يعلم أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عندما وصل إلى سدة الحكم، كان يصل الليل بالنهار والنهار بالليل بين عبادة وإدارة وعمل.

فمن طلوع الفجر إلى المساء كان مشغولاً بتطبيق بالعدل، وبالإصلاح بين الرعية، ربما كان ذلك يستغرق من عشر ساعات إلى أربع عشرة ساعة أو أكثر خلال اليوم. أما الليل فقد كان مشغولاً بالعبادة والتهجد والتضرع، ولم يكن يُبقي للنوم إلا قليلاً من الوقت جداً([12]).

وفي رواية سويد بن غفلة المعروفة، أنه رأى الإمام (عليه السلام) بعد أن نام نومة خفيفة ـ ربما ساعة أو أقل أو أكثر بعد يوم مجهد من العمل والإدارة، والحكم بين الناس، والفصل بين الخصوم، والتجول في كل مكان للإشراف على الرعية مباشرة ـ رآه (عليه السلام) قام من نومه، وهو يشعر بالدوار، ومن شدة الإرهاق وقلة النوم، كان يستند للجدار، ثم توجه للوضوء، ثم انشغل بالصلاة حتى الصباح.

وهكذا كان الأئمة الاطهار (عليهم السلام)، فعندما كانت تتوفر لهم فرصة لمساعدة الناس، كانوا يجندون كل طاقاتهم وبشكل مضاعف، لكن في الوقت نفسه كانوا يحاولون استثمار الزمن، فيضغطون على راحتهم ويقللون من نومهم، للانشغال بالعبادة والمناجاة بين يدي الله سبحانه وتعالى.

هكذا هي الصلاة في مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، وفي مدرسة الإمام الحسين (عليهما الصلاة وأزكى السلام)، وهي مدرسة رسول الله J وأهل بيته الأطهار.

لذا نجد الإمام الحسين (عليه السلام) يستشهد بهذه الآية القرآنية الكريمة: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)([13]).

الصلاة من أهم مفاتيح الكون

إن الصلاة كما تكشفه لنا مدرسة الإمام الحسين، ومدرسة آبائه الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، تعدّ من أهم مفاتيح الكون، وهي ليست أمراً تعبدياً وتشريعياً وروحانياً فحسب، بل لها تأثير تكويني مباشر على الكون.

إن الصلاة كما الطائرة لها تأثير تكويني، حيث تنقلك من مكان إلى آخر، أو أشعة الليزر التي لها تأثير تكويني على الأجسام.

إن الصلاة تمثل سراً من أعظم أسرار التأثير في الكون، فالصلاة ليست مجرد معراج روحي للمؤمن، إنما لها تأثيراتها الكونية الكبرى، وهذا ما سنتحدث عنه بعد قليل بإذن الله تعالى.

هكذا نقرأ ونتعلم في مدرسة أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، وهكذا أيضاً نشاهد ذلك في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام).

صلاة الاستسقاء والتأثير التكويني

أبان حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) على العالم الإسلامي ـ وهو حقا حقاً الخليفة المنصوب من قبل رسول الله J بآية الإنذار([14])، وآية (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)([15])، في قضية (غدير خم) والآيات الأخرى والروايات المتواترة والواضحة، وفي ظل الظروف الجديدة، شهدت مدينة الكوفة جفافاً وقحطاً شديداً. إذ حبست السماء قطرها، فعمّ الغلاء الشديد، وشحّت المواد الغذائية، فلجأ الناس إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) واستغاثوا به.

هنا نشهد الدقة المتناهية في تعامل الإمام مع هذا البلاء السماوي والابتلاء الإلهي، حيث فضَّل أن لا يذهب بنفسه لصلاة الاستسقاء، وهي الصلاة التي تؤثر في المعادلة الكونية، وتسبب هطول المطر، كما تؤثر في كل شيء آخر، بل التفت إلى ولده الإمام الحسين (عليه السلام)، وقال له: "اذهب فاستسقِ لنا "أي أنه طلب منه أن يذهب لصلاة الاستسقاء.

وقبل أن نقرأ دعاء الاستسقاء الذي التجأ به الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ربه سبحانه وتعالى، نتوقف ونتسائل عن سبب اختيار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، الإمام الحسين دون أي شخص آخر؟!.

فلم يذهب هو بنفسه (عيه السلام)، بل حتى أنه لم يختر الإمام الحسن (عليه السلام) لوحده مثلاً. نعم، توجد روايـة أخرى تذكــر أنه (عليه السلام) أمــرهما مـــعاً بأن يذهبا لصلاة الاستسقاء.

لكنني استظهر أنه كانت هناك حادثتان، وأنه تكررت ظاهرة القحط فأمر (عليه السلام) مرةً الإمام الحسن للذهاب لصلاة الاستسقاء، ومرةً اخرى أمر الحسين وحده، لكن يبقى السؤال عن سبب هذا الاختيار؟!.

لعل من الأسباب التي تكمن وراء اختيار أمير المؤمنين لابنه السبط الشهيد، هو: لكي يطبع في أذهان أهل الكوفة، أنهم في يوم من الأيام، سيواجهون هذا الرجل الذي جرت على يديه الكرامة الإلهية، وأرسلت السماء المياه الغزيرة بدعائه، بلطف الله سبحانه وتعالى، ثم مع ذلك تجتمعون عليه لقتله، ثم سبي عياله.

هذه هي المفارقة المؤلمة، التي ثبتها أمير المؤمنين (عليه السلام) في أذهان أهل الكوفة، وفي أذهان الأجيال على مر التاريخ.

ولنرجع إلى تتمة الرواية: انطلق الإمام الحسين (عليه السلام) للاستسقاء، وقال في دعائه بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

(اللَّهُمَّ يَا مُعْطِيَ الْـخَيْرَاتِ مِنْ مَنَاهِلِهَا، ومُنْزِلَ الرَّحَمَاتِ مِنْ مَعَادِنِهَا، ومُجْرِيَ الْبَرَكَاتِ عَلَى أَهْلِهَا، مِنْكَ الْغَيْثُ الْـمُغِيثُ، وأَنْتَ الْغِيَاثُ الْـمُسْتَغَاثُ، ونَحْنُ الْـخَاطِئُونَ وأهل الذُّنُوبِ، وأَنْتَ الْـمُسْتَغْفَرُ الْغَفَّارُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

اللَّهُمَّ أَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا لِـحِينِهَا مِدْرَاراً، واسْقِنَا الْغَيْثَ وَاكِفاً مِغْزَاراً، غَيْثاً مُغِيثاً، وَاسِعاً مُتَّسِعاً، مُهَطَّلًا مَرِيّاً، مُمْرِعاً غَدِقاً، مُغْدِقاً غَيْدَاقاً مُجَلْجِلًا، سَحّاً سَحْسَاحاً، ثَجّاً ثَجَّاجاً، سَائِلًا مُسْبِلًا، عَامّاً وَدْقاً مِطْفَاحاً، يُدْفَعُ الْوَدْقُ بِالْوَدْقِ دِفَاعاً، ويَتْلُو الْقَطْرُ مِنْهُ قَطْراً، غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهُ، ولَا مُكَذَّبٍ رَعْدُهُ، تُنْعِشُ بِهِ الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ، وتُحْيِي بِهِ الْـمَيِّتَ مِنْ بِلَادِكَ، وتُونِقَ بِهِ ذُرَى الْآكَامِ مِنْ بِلَادِكَ، وتَسْتَحِقُّ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ مِنَنِكَ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)([16]).

تقول الرواية: ما أن قرأ الإمام (عليه السلام) هذا الدعاء وصلى صلاة الاستسقاء، حتى تجمعت الغيوم في السماء وتراكمت وتكاثفت، وبدأ المطر ينهمر بغزارة كبيرة بحيث امتلأت الحياض والغدران، والطرقات بماء كثير وافر غامر.

وذلك يعني فيما يعني أن الإمام الحسين (عليه السلام)، وبأمر من أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كان يريد أن يبين لنا أيضاً بُعداً آخر من أبعاد (الصلاة)، وهي أنها مفتاح تكويني لاستمطار الرحمة الإلهية.

أ – الصلاة مصدر إشعاع كوني

وهذا هو ما اكتشفه العلم الحديث أخيراً في أبعاد عديدة، وعلى سبيل المثال: فإن أحد العلماء وهو الكسيس كاريل - الحائز على جائزة نوبل في الطب - يقول: (كما إن معدن الراديوم مصدر إشعاع، وهو يُعد حقيقية عينية تكوينية، فإن الصلاة أيضاً مصدر لإشعاع غريب).

ب – الصلاة تعالج الأمراض الخطيرة

ويقول هذا الطبيب الشهير أيضاً: (شاهدت شخصياً ـ وهي مشاهدات طبيب متمرس وخبير ـ حالات كثيرة لمرضى تماثلوا للشفاء من مرض السرطان بالصلاة، وأيضاً هنالك حالات مرضية زالت بالصلاة، مثل التدرن البريتوني، وهو من النوع السيء جداً والخطير من أنواع التدرن).

ويقول كاريل أيضاً: (كانت الصلاة السبب في شفاء الكثيرين من التهاب العظام، والجروح المتقيحة، التي يصعب علاجها)، وغير ذلك من الأمراض.

إذن الصلاة لها تأثير تكويني؛ فبالصلاة تُستمطر السماء، ويُشفى المريض، ويغاث الملهوف، وتُقضى الحوائج.

ج – الصلاة عامل تطهير الأرض

وإلى جوار ذلك كله، فإن الصلاة هي عامل لتطهير الأرض، فإنه ثبت علمياً أنه إذا اجتمع قوم في مكان ما وصلوا، أو حتى إذا صلّى شخصٌ واحد، فأنه يخرج من بدنه إشعاع يُطهر الأرض من الشحنات السالبة التي تؤثر على الإنسان سلبياً، وتسبب توتر الأعصاب، أو تؤدي إلى اختلال مسارات الطاقة في بدنه.

هكذا نتعلم في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الدروس والعبر، ونتعلم أن الصلاة هي مفتاح تكويني للرحمة الإلهية، وليست مفتاحاً عبادياً تستوجب للقرب لله تعالى فقط.

الصلاة والتطبير والانضباط والروح التضحوية

وفي الختام ثمة إشارة إلى بعض التأثيرات التي تتركه هذه المدرسة الروحية والعرفانية على أتباعها.

إذ أن هناك شهادة من رجل غير مسلم ومعروف، وهو الكاتب الإنجليزي (توماس لايل)، فقد جاء هذا الرجل إلى العراق، وشاهد عن قرب مواكب عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، ورأى أن المعزّين كيف يقيمون الصلاة بذاك الخشوع والخضوع، ثم ينطلقون ويضربون بالسلاسل على الصدور، أو حتى يضربون على رؤوسهم بالسيوف (التطبير)، وقارَنَ بين ما يراه وبين ما سمعه من دعايات، بأن معظم أتباع أهل البيت يتصفون بالوحشية والهمجية! فما معنى أن يضرب الإنسان نفسه بالسلاسل؟! إنها عقدة نفسية ومحاولة لجلد الذات!! إلى غير ذلك من الكلام غير العلمي.

لكن (توماس لايل) وهو الذي ينظر إلى القضية بعين المثقف الغربي، يقول: (لم يكن هناك أي نوع من الوحشية أو الهمجية، ولم ينعدم الانضباط بين الناس.

فشعرت في تلك اللحظة وخلال مواكب العزاء، وما زلت أشعر ـ وهي التجربة التي ظل يعيشها لسنوات ـ بأني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن ومُفعم بالحيوية في الإسلام).

لقد شاهد جموع المصلين المعزين، وهم يؤدون صلاة الفريضة قبل أن ينطلقوا ويضربوا ظهورهم بالسلاسل، مكتشفاً المعاني السامية في الإسلام.

ويقول أيضاً: (أيقنت بأن الورع الكامن في أولئك الناس، والحماسة المتدفقة منهم، والتي تجعلهم يضربون أنفسهم بالسلاسل أو بالسيوف، هي كناية عن مواساتهم لإمامهم الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي ضحى من أجل الصلاة وللقيم السامية بكل شيء.

وهذه الحماسة المتدفقة بوسعها أن تهز العالم هزاً، فيما لو وُجهت بشكل صالح، وانتهجت السبل القويمة).

والخلاصة هي: إن الصلاة في مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) هي طريق للرحمة الإلهية، وطريق لتصحيح العلاقة مع الآخر، وهي الأصل، وهي الجوهر، وهي مفتاح من أهم مفاتيح الكون.

* فصل من كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) وفروع الدين
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

 

........................................................
 ([1]) وسائل الشيعة: ج4 ص27 ب6 ح4424.
([2]) سورة المزمل: 6.
([3]) سورة المزمل: 6.
([4]) تفسير مجمع البيان: ج10 ص163 سورة المزمل.
([5]) سورة الفرقان: 47.
([6]) سورة المزمل: 6.
([7]) سورة العنكبوت: 45.
([8]) الكافي: ج3 ص265 باب فضل الصلاة ح6.
([9]) وسائل الشيعة: ج4 ص97 ب30 ح4612.
([10]) وسائل الشيعة: ج4 ص100 ب30 ح4620.
([11]) سورة الحج: 45.
([12]) ابْنُ شَهْرَآشُوبَ فِي "الْمَنَاقِبِ": عَنْ أَمِيرِ الْـمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَنَّهُ رَآهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَنَّةٌ فِيهِ قَرَاحُ مَاءٍ، وَكَسَرَاتٌ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، وَمِلْحٌ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى لَكَ يَا أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ لِتَظَلَّ نَهَارُكَ طَاوِياً مُجَاهِداً، وَبِاللَّيْلِ سَاهِراً مُكَابِداً، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا فَطُورَكَ!. فَقَالَ (عليه السلام): (عَلِّلِ النَّفْسَ بِالْقُنُوعِ، وَإِلَّا طَلَبَتْ مِنْكَ فَوْقَ مَا يَكْفِيهَا)، مستدرك الوسائل: ج7 ص365 ب9 ح8427.
([13]) سورة المزمل: 6.
([14]) وهو قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) سورة الشعراء: 214.
([15]) سورة المائدة: 3.
([16]) مستدرك الوسائل: ج6 ص199-197 ب11 ح6750.

اضف تعليق