ما الفارق بين الطقوس في بلادهم وما يشاهدونه في الطريق الى كربلاء المقدسة من شعائر، من صور لمعوّق يزحف الى ركبته، أو طفل شيخ كبير محنيّ الظهر، وقد قطع مسافة طوال ثلاثة عشر يوماً، وهو يبتسم ويشعر بالارتياح والاعتزاز، او امرأة مع طفلها الصغير...
هنالك تجمعات بشرية في العالم تؤدي طقوساً دينية مقدسة لديها، كالذي يجري في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، او ما يجري عند المعبد الذهبي للهندوس في الهند، او كرنفالات يشارك فيها الآلاف من الناس لإحياء تقاليد وعادات اجتماعية، وفي زيارة الاربعين هذا العام، وكل عام، يشارك عدد لا بأس به من ابناء دول مختلفة من العالم، مثل الصين وبريطانيا واميركا والهند، والدهشة تعقد السنتهم، وهم يرون مشاهد غير معهودة في بلادهم، مهما كانت الطقوس كبيرة ومقدسة.
فما الفارق بين الطقوس في بلادهم وما يشاهدونه في الطريق الى كربلاء المقدسة من شعائر، من صور لمعوّق يزحف الى ركبته، أو طفل شيخ كبير محنيّ الظهر، وقد قطع مسافة طوال ثلاثة عشر يوماً، وهو يبتسم ويشعر بالارتياح والاعتزاز، او امرأة مع طفلها الصغير، وايضاً مشاهد البذل بالمال من الغني والفقير على السواء؟
إن الطقوس الدينية والكرنفالات الضخمة في العالم تستمر لفترة معينة وتنتهي، ثم يذهب كلٌ الى حال سبيله، ويعود الجميع الى اعمالهم وحياتهم السابقة، والامر لا يختلف عنه في كربلاء المقدسة، إذ تختفي آثار المواكب الخدمية، رغم كثرتها داخل وخارج المدينة، لمجرد انقضاء يوم العشرين من شهر صفر، وانتهاء مراسيم زيارة الامام الحسين، عليه السلام، فالجميع يهرع الى مرآب السيارات للحصول على مقعد قبل غيره، في حافلات توصله الى مدينته والى بيته، ثم تعود كربلاء بشوارعها وأزقتها وساحاتها وأهلها، كما كانوا قبل الزيارة، كلٌ يذهب الى حيث عمله واهتماماته المختلفة.
الزائرون غير المسلمين توصلوا الى بعض الحقائق في علاقة الانسان المسلم وتحديداً الشيعي بالامام الحسين، عليه السلام، والاسباب التي تدفع هذه الملايين لزيارته؟
لقد اكتشفوا ان الحرية والمساواة والاخلاق وغيرها من القيم السامية، تمثل نوافذ مضيئة تدلهم على الطريق الصحيح لحياة افضل، وحصل أن سُئل زائراً معوقاً يزحف على ركبته ضمن قوافل المشاة في زيارة الاربعين، عن سبب عدم وجود والديه او اقاربه الى جنبه، قال: "ان الحسين هم أمي وأبي"، فهو يستشعر الحنان والعطف والرعاية وكل اللمسات الانسانية من الامام الحسين، عليه السلام، وهذا الشعور لم يتولد مع أيام الزيارة، وهي ايام معدودات، ومن غير المعقول ان يستجمع الانسان كل هذه المشاعر والدوافع مرة واحدة في فترة زمنية محدودة من دون معايشة مستمرة طوال سنوات من عمر الانسان المعوّق او ذلك الرجل العجوز، بل وجميع الزائرين.
ان الزائرين يوم الاربعين يقرأون هذا المقطع من زيارتهم للإمام، عليه السلام: "...وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة"، فكيف يستنقذ الامام الحسين، الناس، على مر الزمن، من الجهل وتسطيح الوعي، ويحول دون سقوطهم في متاهات الفكر والثقافة؟
انها الروح الكامنة في هذه الزيارة، وفي سائر الزيارات المندوبة للإمام الحسين، عليه السلام، مثل زيارة النصف من شعبان، وزيارة عرفة، وزيارة ليلة القدر، وحتى زيارات ليلة الجمعة من كل اسبوع على مدار السنة، فهذه الزيارات تحمل اشعاعات تضرب النفس الانسانية فتعمل على تنقيتها وتوجيهها لعمل الخير وتحديد السبيل الى تحكيم القيم والمبادئ السامية في الحياة، بل وتحديد الثمن لذلك، وهي التضحية بالوقت والمال والجاه، وإن اقتضت الضرورة بالنفس ايضاً بلغت الامور نقطة الافتراق بين الحق والباطل، والحد الفاصل بين التمسك بالقيم والمبادئ الحسينية، او الاصطفاف الى جانب الحاكم الظالم، او حتى السكوت عنه.
ومن اجل ذلك نلاحظ الكثير من كبار السنّ يحدثون الشباب عن بطولاتهم وتحدياتهم لمحاولات الحظر أيام الحكم الصدامي لهذه الزيارة، وكيف انهم كانوا يخوضون جهاداً حقيقياً ويحملون ارواحهم على أكفهم في الطريق الى كربلاء.
لذا يمكن القول: أن مدينة كربلاء المقدسة لها أن تفتخر كونها تميزت بمحورية عالمية للتغيير الانساني الشامل في ضوء النهضة الحسينية، فهي ليست محلاً لأداء طقوس دينية لفترة زمنية وحسب، وإنما هي مركز اشعاع فكري وحضاري للعالم الاسلامي وللعالم، وهذا من باب التنظير في شيء، إنما الواقع هو الذي يتكلم ويكشف عن هذه الحقيقة، وهذا يدعو العلماء والخطباء والمؤسسات الثقافية لأن تبقي الحماس والفاعلية في المواكب الحسينية المتواجدة في كربلاء، وتجعل ابوابها مفتوحة على مدار السنة لتكون مركزاً للشباب للتزود بالفكر والثقافة الصحيحة، من خلال المكتبات العامة والتخصصية، والندوات المفتوحة، ومختلف الفعاليات الفنية والادبية، وايضاً الاستفادة من الانترنت بتشكيل مجموعات شبابية تقود "كروبات" ترد على الشبهات وتجيب على مختلف الاسئلة الحائرة، بما يسهل مهمة التغيير المنشود كما توقعه الامام الحسين، عليه السلام، لنا.
اضف تعليق