في رواية مأثورة عن الامام الرضا، عليه السلام، قال في جمعٍ لاصحابه: "أحيوا أمرنا. رحم الله من أحيا أمرنا" فقال أبو الصلت الهروي: وكيف نُحيي أمركم؟ فقال: "يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا" .
يتفق الجميع على أن الشعائر الحسينية باتت تمثل نافذة واسعة جداً تسع مختلف شرائح المجتمع يعبرون من خلالها عن كوامنهم الخيّرة وقدراتهم وخصالهم الحسنة في محاولة منهم لإيجاد صلة الربط بينها وبين ما حملته واقعة كربلاء من مفاهيم وقيم على أنهم يمثلون امتداد لتلك الواقعة في كل ما جرى على أهل البيت، عليهم السلام، من خلال المواساة في مراسيم العزاء، او من خلال خدمة الزائرين والمعزين، منطلقين في كل ذلك من دوافع عاطفية، وهو ما نلاحظه في المشاركة الملحوظة لشريحة الشباب والفتيان وحتى الصغار في هذه المراسيم، ولاسيما ما يجري حالياً من السير على الاقدام لزيارة الامام الحسين، علي أربعينيته، وهو أمرٌ حسن، فالتفاعل القلبي والعاطفي، يعد بداية طيبة ومؤثرة لمسيرة طويلة في الايمان والولاء لقضية مثل قضية الامام الحسين، عليه السلام.
فهل ان هذه القضية تختزل في هذا الجانب النفسي؟ وهل ان إحياء أمر أهل البيت، عليهم السلام، يقتصر على إقامة مجالس العزاء وإظهار الحزن والجزع عليهم؟
لمن يراجع المشهد العاشورائي وحتى قبله، عند انطلاق الامام الحسين، عليه السلام، في مسيرته الرافضة للظلم والطغيان، يلاحظ تقديم التفكّر والتدبر والحكمة على العاطفة والحماس وإثارة المشاعر، فقد تحدث الامام بوضوح عن حكمة بالغة لخروجه الى العراق، في معرض إجابته لمن أبدى خشيته من عواقب هذا الخروج، وانه لن يلقى الوفاء والولاء من أهل الكوفة، وعندما علم الجميع أن الامام الحسين عازمٌ على ملاقات الحتوف وانه موطن نفسه على الشهادة، قالوا له: "...وما حملك النساء والاطفال معك"؟ فأجاب: "شاء الله ان يراههنّ سبايا".
وفي ساحة المواجهة، وقبل وقوف السيف بين الجانبين، كشف الامام، عليه السلام، كل الحقائق امام أهل الكوفة بما لم يدع لهم أية حجة او مبرر يشرّع لهم قتله، وهو في ذلك كان يبحث فيهم عن البصيرة التي تنتشل الانسان من ظلام الجهل والتضليل الى نور العلم والهدى والنجاة، وقد برز من أهل البصيرة، الحُر الرياحي الذي فكر وتدبّر وغلّب عقله على هواه وميوله النفسية، وبذلك أرسى قاعدة فكرية تقف بوجه من يتحدث عن الحتمية التاريخية التي تفرض على البشرية مصيراً لا مفر لها منه، ولا إرادة لها في تغييره.
ولم يكن الحُر آخر من فكر وتدبّر في أمر الامام الحسين، ونهضته الإصلاحية، بل وامتد الأمر الى مسيرة السبايا بعد الواقعة، وتمثل في ذلك الشيخ الكبير الذي وقف أمام الامام السجاد، عليه السلام، وهو في تلك الحالة المريعة التي يصعب تصورها، وأخذ بإلقاء الاتهامات والاساءات على الامام، لانه كان يرى فيهم من الخارجين على الدين والملّة، فجاء الرد قرآنياً، وبين له الامام إنه من أهل البيت الذين وردت بحقهم آيات عدّة في القرآن الذي يقرأه مرات عدّة، والنتيجة؛ عودة هذا الرجل الى رشده والاعتذار من الامام والتحوّل من حال الى آخر، بل حتى وجود رأس الامام الحسين في مجلس يزيد كان له دور في إثارة التفكير، عندما عرف أحد الموجودين في المجلس ان الرأس يعود لبنت رسول الله وخاتم الانبياء، انتفض من المجلس وأعلن معارضته ليزيد ونظامه فكان مصيره الاعدام فوراً.
إن ما جرى خلال مسيرة السبي من كربلاء الى الكوفة، ومنها الى الشام، مروراً بمنازل ومناطق عدّة حتى عودة أسرة الامام الحسين، عليه السلام، الى كربلاء تزامناً مع مرور أربعين يوماً على استشهاده، ربما يحجبه التاريخ عنّا، فقد حصل الكثير ووقعت احداث عدّة وجمّة غيرت نفوس وقلبت آراء ومواقف في المجتمع الاسلامي آنذاك، ولعل هذا يفسّر المشيئة الإلهية في أن يكنّ نساء وأطفال الامام الحسين سبايا، وأن يكون الامام السجاد، وعمته زينب، عليهما السلام، ومعهما النساء والاطفال، فكلٌ راية حمل الامام الحسين بقدره واستطاعته، لتظلّ اليوم خفاقة في جميع أنحاء العالم، والجميع يتحدث عن قيم ومبادئ النهضة الحسينية، سواء من الشيعة والموالون، أم من سائر المذاهب الاسلامية، بل ومن سائر الاديان والمذاهب في العالم.
وبما أن الحديث يأتي في ضوء زيارة الاربعين وما تحمله من تفاعلات جمّة نراها في الحشود المليونية السائرة لأداء هذه الزيارة العظيمة، من الجدير الاشادة بظاهرة إقامة مجالس الذكر والوعظ والإرشاد في مناطق عدّة في كربلاء المقدسة، يتسوّر فيها عدد قليل من الرجال والنساء حول خطيب داخل مواكب او هيئات وهو يتحدث عن دلالات النهضة الحسينية، ويبين للناس اسباب نهضة الامام و اهدافه الإصلاحية، وهذا يمثل بداية موفقة لمشروع التثقيف الحسيني الذي من شأنه تقويم السلوك والتصرفات والنشاطات المختلفة لإحياء هذه الزيارة، سواء ما يتعلق بالجانب الخدمي وإعداد الطعام والشراب للزائرين، او ما يتعلق بأداء مراسيم العزاء،وفي كل خطوة يرفعها الزائر خلال هذه الايام.
ومن بعد هذه المبادرة، لابد من مبادرات مماثلة من لدن وسائل الاعلام، وتحديداً القنوات الفضائية ومن الكتاب والادباء والمثقفين والعلماء وكل من يحمل فكرة ورؤية تصب في إحياء قضية الامام الحسين، بأن يولوا الجانب الفكري والثقافي أهمية خاصة تجعل من هذه القضية الكبرى منهجاّ لحياة الشباب والرجال والنساء وجميع شرائح المجتمع.
اضف تعليق