q

"...اللهم اجعلني عندك وجيهاً بالحسين"، هكذا يدلنا الامام الصادق، عليه السلام، في زيارة عاشوراء، على الطريق الأقصر الى الله –تعالى- وهو الطريق الذي طالما شغل قلوب وعقول المتدينين عبر التاريخ، فبعض التزم طريق الانبياء والمرسلين، والبعض الآخر وجد نفسه مكتفياً بجهده الذهني وتصوراته، مستغنياً عن وحي السماء، كما حصل لليهودية بعد ابتداعهم للعنصرية والقومية متخذين اياها سمة تميزهم عن سائر البشر والأقرب الى الله، وكما حصل للمسيحية بعد التثليث، ثم ظهر فريق آخر ينفض الغبار عن مكتسبات فلسفية للقدماء والمحدثين ممن لجأوا الى المثالية تارةً والمادية تارة أخرى، مستغنين عن الانبياء والرسل والكتب السماوية ليكونوا لأنفسهم تصورات خاصة عن الخالق والوجود، فهل استشعروا لذة الراحة النفسية والاطمئنان القلبي الدائم بوجود من يمنحهم القوة والنعم والامان وكل شيء في الحياة؟

لقد استراح الإمام الحسين، عليه السلام، الى معرفة إلهية شاملة وكاملة، وكيف لا يكون كذلك، وهو ابن من قال: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينا"، وقد أولى هذه المعرفة والايمان أهمية خاصة في حياته، فهي غمرت مشاعره الداخلية وأعماق قلبه وروحه الشريفة، كما انعكست بقوة على الواقع الخارجي وطريقة تعامله مع الاحداث وشخوصها، ففي دعاء عرفة، يحمد الله "الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع فطر أجناس البدائع وأتقن بحكمته الصنائع..." وبهذا الادب الرفيع يبين الامام في هذا الدعاء المطوّل، طبيعة علاقته بالله –تعالى- وما هي هويته وعنوانه، انه تعريف بلاغي وأدبي رائع بالخالق العظيم، ينساب كالماء الزلال الى كل ظمآن للحقيقة على مر الاجيال والدهور.

ثم ينعكس هذا الايمان العميق على الواقع الخارجي ليعالج ما ألمّ به من انحرافات وتشوهات ألحقت بالغ الضرر بالانسان؛ الفرد والمجتمع، منذ تلك اللحظات التي واجه فيها الامام الحسين، الواقع السياسي والاجتماعي في الامة، وأمام جموع الزاحفين اليه من الكوفة ليشاركوا في قتله في كربلاء، وقف يتأملهم ثم رفع رأسه الى السماء قائلاً: "اللهم أنت ثقتي في كربٍ و رجائي في كل شدّة، وأنت لي في أمر نزل بي ..... كم همٍ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويفقد فيه الصديق ويكثر في العدو انزلته بك وشكوته اليك رغبة منّي اليك عمّن سواك.....".

ماذا نفهم من هذا المقطع من الدعاء في لحظة يفهمها أي انسان آخر في نفس الموقف، على أنها ساعة حرب ونزال، فعليه الاستعداد لمواجهة الموقف والنظر فيما يجب أو لايجب، ويضع الخطط التكتيكية السريعة او ربما يفكر استراتيجياً ويهادن او غير ذلك؟

الامام الحسين، في هذه اللحظة كان يفكر بالقدرة الإلهية وليس بالقدرة العسكرية التي يفترض انه يحتاجها في لحظته الراهنة، لان هذه القدرة زائلة لا تدوم له، بينما القدرة الإلهية الباقية وهي التي تمنحه القوة الهائلة والمستديمة، وهكذا حصل.

هكذا وصل الامام الحسين الى الله –تعالى- وهو الامام المعصوم والمفترض الطاعة، بمعنى انه يحمل مهمة سماوية تمكنه من استخدام "وجاهته" ومكانته العظيمة لفرض نفسه على الواقع وتحقيق النجاح في مشروعه التغييري، فهو لم يستخدم المعجزة –مثلاً- وهي كرامة متوفرة لديه، ولدى جميع المعصومين، عليهم السلام، لانه يريد من سائر الناس اللحاق به في مسيرة الايمان، وكان من هؤلاء الحر، هذا الرجل العظيم في شخصيته وموقفه التاريخي، فعندما وقف أمامه مطأطئ الرأس طالباً منه التوبة أجابه الامام الحسين: "نعم؛ إن تتُب يتوب الله عليك"، وفعلاً حصل وسام التوبة الإلهية والخلود الأبدي بعد انفصاله عن معسكر الانحراف والضلال .

هذه المسيرة الصاعدة الى السماء والمضمخة بالدماء والتضحيات الجمّة والمنقطعة النظير، هي التي تكون مؤهلة لأن تورث طموحات الانبياء والمرسلين منذ آدم وحتى النبي الخاتم وحتى ظهور الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، بالإصلاح النفسي ثم الاجتماعي والسياسي ايضاً لتحقيق السعادة والامان للبشرية وتتمكن من مواجهة الانحراف والفساد بكل اشكاله، كما أن الامام الحسين، يمثل الرجل الفدائي المنقذ للدين الاسلامي من الانحراف والتشويه، بل والسقوط الى ما انحدرت اليه المسيحية واليهودية وسائر الديانات والمذاهب، فصار أمثولة لهم جميعاً في التضحية والإباء.

من هنا نفهم حقيقة الدعاء بأن نكون وجهاء عند الله بالحسين، لانه مدرسة الايمان والاستقامة، يبقى السؤال عن آلية التوفيق لدخول هذه المدرسة وأن نفلح بهذه الوجاهة، ومن ثم نسعد باستجابة هذا الدعاء؟

سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي –قدس سره- يجيب عن هذا السؤال المحوري في كتابه "الامام الحسين عظمة إلهية وعطاء بلا حدود" بأن "هذا مرتبط بثلاثة عوامل، كلما زادت نسبة هذه العوامل، نزداد وجاهة اكثر عند الله في الدنيا والآخرة:

العامل الاول: يرتبط بالقلب، وهو المودة والمحبة.

العامل الثاني: يرتبط بالعقل، وهو الاعتقاد والمعرفة.

العامل الثالث: يرتبط بالعمل، وهذا يتعلق بالتفاني والتضحية.

إن مراسيم إحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، في أيام محرم الحرام وصفر الخير، لهي أعظم فرصة للباحثين عن حقائق الحياة والوجود والخالق، وهي حقائق جوهرية ومفصلية يقوم عليها البنيان الفكري والمنظومة الثقافية لكل انسان، بما يضمن له تحقيق طموحاته في الحياة والفوز المبين في الآخرة.

اضف تعليق