إنسانيات - انثربولوجيا

عالم يسكنه الخوف!

يروي لي احد الأصدقاء، انه كان مستقلا لسيارة اجرة عامة، فصعدت امرأة متوسطة السن يرتسم على ملامحها خوف شديد مما رأته قبل صعودها الى السيارة، وروت قصتها: لقد خرجت من المنزل، واذا بعدد من المسلحين يملؤون الشارع، بلحاياهم الطويلة وهم يحملون أسلحتهم. لقد شعرت برعب شديد، وقلت في نفسي: لقد وصل داعش الى مدينتنا، رغم كل التطمينات التي سمعناها في الشهور السابقة عن عدم وصول داعش الينا.

تقول تلك المرأة: سألت احد الشباب الواقفين للفرجة على هؤلاء المسلحين عما عرفه عنهم: اجابني: بان هؤلاء ممثلين يقومون بعمل سينمائي عن داعش.

داعش لم تدخل تلك المدينة ولا هم يحزنون، لكنه الخوف.

منذ العام الماضي، تشهد ساحات عدد من المحافظات العراقية تظاهرات عديدة، لم تكتف بالشعارات المهادنة او التصالحية مع السلطات الحاكمة، بل كانت شعاراتها هذه المرة اكثر حدة وقوة، اشرت لحالة من الإحباط الذي لم يعد ساكتا دون تفجيره عبر الحناجر.

سارع رئيس الوزراء ومجلس النواب، الى دعم عدد من المطالبات "ولو انها لم ترتق الى الاستجابة الكاملة والناجزة" الا انها بالمقابل اشرت لحالة من الخوف على المناصب والمكاسب التي احرزتها تلك الجهات السياسية عبر أصوات اغلب هؤلاء المتظاهرين، بالمقابل لم تستمر الأصوات التي حاولت تصوير تلك التظاهرات بانها تخدم داعش او سواها لاجل قمعها، انه الخوف المتبادل.

في مقال للواشنطن بوست حمل عنوانا مثيرا: عالم خائف ومجزأ في خريطة واحدة، مما ورد فيه:

هناك الكثير للقلق بشأنه في العالم حالياً، بدءاً من الإرهاب إلى خطر انتشار الأوبئة. ورغم ذلك، فالأمر المقلق هو كيف انقسمت مخاوف العالم على أساس إقليمي، وفقاً للنسخة الحادية عشرة من تقرير المخاطر العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

تبدو مخاوف العالم وكأنها مشتتة جغرافياً، ويمكن القول إنها تعكس بديهية أن كل السياسات محلية. فبالنسبة للأميركيين، فإن القرصنة في السنوات الأخيرة تجعل الهجمات الإلكترونية تتصدر قائمة التهديدات المقلقة باعتبارها أكثر الأخطار المحتملة.

وفي أميركا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، نجد أن المعاناة من السرقات الحكومية والفساد تجعل «فشل أنظمة الحكم» هو التهديد الأكثر جدية، أما أوروبا، التي تعاني من مشكلة اللاجئين، فترى أن الهجرة غير الشرعية هي الخطر الأولى بالعناية، بينما تهيمن الكوارث الطبيعية في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي، الخوف يسيطر على الجميع.

ما هو الخوف، وماهي علاقته بالسياسة؟

لا يمكن الحديث عن ثقافة الخوف إلا كفعل ثقافي ناتج عن شروط موضوعية مرتبطة بنظام اجتماعي سياسي محدد يعمل على خلق آليات تهيئ الشروط والظروف لنماء الاستعداد لتقبل الخوف لدى الفرد واستدماجه في بنيته الفكرية والسلوكية، فهي تستهدف فيه شل إرادته، وإعادة تكوينه إنسانا سلبيا محاطا بشبكة عنكبوتية من النواهي والمحرمات. في ظل وجود شروط اجتماعية يسودها الخوف، والمتمثلة في وجود جو عام قائم على الخضوع والاستسلام.

"أنتروبولوجيا الخوف في المجتمعات المعاصرة /أحمد الخطابي".

ان كان الخوف تجاه المجهول والحاجة النسبية للحماية والأمان، يميزان من اصله، الوضع الإنساني، فقد اصبح الخوف مع الحداثة، احد أسس النظام السياسي، أي انه ليس للخوف تاريخ: الامر امر انفعال بدائي وما قبل السياسي الذي لاحظه ريمون ارون، ليس بحاجة لان يعرّف. ومع ذلك، عندما يصبح موضوع جدل عام، يتخذ الخوف شكلا تاريخيا ومحتملا، يجب بالضرورة تفريق خيوطه. لقد شكلت الصلة بين الخوف والسياسة، الخلفية التي دشنت الحداثة، كما يرى مؤلفوا "معجم الجسد".

الخوف بالتأكيد هو طريقة للوقوف في وجه العالم. ويمكن ان يكون لنا تجاه هذا العالم موقفان مختلفان: اما ان نستسلم ليسيطر علينا، واما ان نحزم امرنا في استكشافه. بإمكان التفكير حول الخوف ان يساعد على التطرق لمختلف سياقات الوضع الإنساني. لذلك، فالخوف الذي يشكل جسرا حقيقيا بين العقل والحساسية، بوسعه ان يصبح معيارا سامحا بإبداء الراي وبتقييم المؤسسات السياسية والمجتمع المدني.

الخوف، من وجهة نظر معينة، يصون تفرد الكائنات البشرية بحفاظه على تعدديتهم، والأشخاص الذين يشعرون بالخوف لهم تقييمهم فيما يخص هذا الخوف: لديهم قصتهم الخاصة سيروونها لنا، وجوه الخوف.

ان كان مونتين هو اول من اكد "اكثر ما اخافه هو الخوف" فان هوبس هو اول من وضع شجرة النسب للخوف. في الحقيقة، ان الجهاز المصطنع "لوحش البحر" الذي يدور حول انتقال الحالة الطبيعية الى الحالة المدنية، ليس سوى انتقال من خوف الى اخر: من الخوف الفردي والمتبادل الى الخوف المشترك والمتبادل. الخوف عند هوبس هو الاندفاع المهيمن، وبهذه الصفة يجب ان يحيّد، ان تزول الصفة السياسية عنه. يوحي الخوف بممارسات حذرة من التصنع والاخفاء. لذلك يقيم هوبس علاقة السلطة كشرط للخروج من مازق "الاجتماعية اللااجتماعية" للأفراد. ورغم تراجعات الخوف لدى هوبس الى كلمات القمع، فهي تساهم في تحديد اللغة الأخلاقية والرموز السياسية للمجتمع: انها جوهرية للحكومة.

حتى عند لوك، الفرد الذي لا يشعر بالخوف هو فرد سلبي: الخوف هو الذي يترجم قلق الروح، و"القلق هو المحرك الرئيسي، ان لم يكن المحرك الوحيد للعمل الإنساني، من هنا نشأت فكرة ان الخوف يمثل مصدرا للطاقة السياسية: فانه يوقظ ويحرض على العمل. انه فرصة للتجديد، يصبح حاجة سياسية، بتجديد الجماعية بصفتها جماعة. وإذا ما خاف الافراد فانهم يشبهون ممثلي مسرح مزدحم، في صراع مع احد المتفرجين الذين يصرخون ان هناك نار دون سبب ظاهر: فهم يتّحدون ليس بتشارك المبادئ والمصالح، بل بفعل انهم مهددون بنفس الطريقة.

إن شدد مونتسكيو على ان مكائد خوف استبدادي ليس نتاجا للقوانين، وللمؤسسات والتربية، بل ناجم عن استخدام غير شرعي ودون حدود لعنف المستبد، فاننا نشهد مع توكفيل الانتقال من الخوف الجماهيري الطغياني والمستبد الى خوف الجماعة المنفردة: لم يعد الخوف أداة الذي يمارس السلطة، لانه يصدر من "اسفل" ، لم يعد نتاج القوانين، المنتَخَبين، المؤسسات، بل على العكس، يصبح نتيجة غيابهم. وهكذا نحن قبالة الاشكل الحديث للخوف الذي هو فن السيطرة – عن طريق الأنظمة الكليانية – اكثر من أسلوب للدفاع ومن متراس ضد الموت: انها الفكرة السياسية للخوف التي ستتطور، انما بعدٌ جديد نادرا ما ستظهر استخداماته كاستخدامات بريئة او حيادية.

لقد أعادت أنظمة الاستبداد عبر التاريخ إنتاج وإعادة إنتاج ثقافة كاملة من الخوف مؤثثة بمظاهر اجتماعية وثقافية أصبحت ضاربة في اللاوعي الجماعي والفردي، بفعل التجارب التي ترسخت في الذاكرة الجماعية للأفراد، جعلتهم يعيدون إنتاج الوعي الجماعي المشكِّل لهذه الثقافة. حيث أصبح حاجزا أمام إمكانية دفع المجتمع إلى التحرر من هذه الفوبيا الجماعية التي يرزح تحتها ولا يحس بالمعاناة التي تكبله وتشل فكره. يمكن للضغط والقمع الذي يتعرض له الأفراد أن يحولهم إلى كائنات تخاف من لا شيء حتى يمكنها ضمان استمرارها في الحياة.

--------------------
"أنتروبولوجيا الخوف في المجتمعات المعاصرة / أحمد الخطابي".

اضف تعليق