الوعي ليس نتاج الواقع في تفسيره المجرد المباشر وبخلافه هذا يعني لا يمكننا تمييز احساسات الحواس التي هي نتاج الواقع وبين الوعي الذي هو فهم وتوصيف مقولات العقل عن موضوعات الواقع في التعبير عن كينونتها وعيا لغويا خارجيا، فالوعي تجريد لا يدخل في تموضع معرفي مع مدركات العقل لموضوعاته...
استرعاني التوقف عند مقولات فلسفية وجدتها خاطئة بتقديري جرت على لسان احد فلاسفة القرون الوسطى الاوربية وغيرهم سأتناولها بالتعليق النقدي التالي تباعا.
1. "الوعي هو نوع من التحرر من الواقع".
الوعي ليس نتاج الواقع في تفسيره المجرد المباشر وبخلافه هذا يعني لا يمكننا تمييز احساسات الحواس التي هي نتاج الواقع وبين الوعي الذي هو فهم وتوصيف مقولات العقل عن موضوعات الواقع في التعبير عن كينونتها وعيا لغويا خارجيا.
فالوعي تجريد لا يدخل في تموضع معرفي مع مدركات العقل لموضوعاته. كما والوعي لا يدخل بعلاقة جدلية مع المدركات العقلية بصيغة ديالكتيك التضاد. الوعي لا يسبق الموجود ولا يحاول المداخلة معه خارج سلسلة المنظومة العقلية الادراكية التي تبدأ بالحواس في تسليم شبكة الاعصاب الاحساسات الانطباعية الواردة اليها من مدركاتها الحسية عن الواقع. الوعي فهم عقلي ثانوي على اسبقية الوجود وليس هناك علاقة جدلية غير منظورة مدركة بينهما اي بين الواقع والوعي.
الوعي لا يماثل الانطباعات الحسية الصادرة عن الواقع الخارجي التي تتحسسها الحواس وتتولى نقلها لشبكة اعصاب الذهن. الوعي ليس نتاج الواقع ولا حبيسه كي يتحرر منه. الواقع هو مركزية مصدر الادراكات العقلية بينما الوعي هو الفهم المعرفي الوارد من الدماغ في تعريفه لموضوعات ادراكاته في العالم الخارجي.
الوعي هو تجريد اجرائي لفهم ومعالجة المدركات بخلعه توصيفات العقل الفاهمة لها. الوعي مهمته ادراك موضوعات تفكير العقل هو واسطة نقل الوعي القصدي العقلي من مرحلة عملية ادراك الاشياء الى معرفة العقل لها معرفة قصدية. العقل لا يدرك الاشياء لمجرد تأكيد وجودها ولا لمجرد تأكيد ذاته الموجودية بدلالة موضوعاته المدركة المغايرة له بالمجانسة هي الصفات والجوهر.
الوعي لا يدركه العقل كموضوع مستقل بل هو وسيلة ادراك معرفي للعقل تعبّر عنه اللغة يكافئ الفكر بعلاقته اللغوية في التعبير عن المدركات. وحين نربط كما في الخطأ الوارد بالعبارة ان وعي الواقع ومحاولة الانفلات والتحرر منه متساويان انما تصبح النتيجة ليس هناك من موضوع يتوّسل العقل الوعي به. وفي حال تعاملنا مع الوعي على انه موضوع عقلي يلازم الواقع ويكافئوه بالإدراك المستقل للعقل انما بذلك نجعل من العقل لا يمتلك موضوع تفكيره في هيمنته المعرفية على موضوعات مدركاته.
بمعنى وعي العقل لمدركاته يختلف تماما عن وعي الوعي العاجز مجاراة العقل معرفته تلك المدركات. ليس في اختلاف مضموني الادراك التعبيري رغم تعالقهما الترابطي العضوي بينهما بما لا انفكاك عنه. (اقصد العقل والوعي).
الواقع لا يحتوي الوعي بنوع من العلاقة التموضعية لذا من الغريب القول ان الوعي هو نوع من التحرر الواقعي وغياب الوعي في ملازمته الواقع معناه انعدام معرفة مدركات العقل. كون الوعي ليس حبيس الواقع بل يلازمه ملازمة حيادية في تكامل معرفي معه هو توصيف تفكير فهمي إجرائي للعقل في تفسيره الواقع.
ثم ليس من علاقة تضاد تنافري نوعي تحكم الوعي بالخلاص التحرري من الواقع. الوعي توسيط عقلي محايد للتعبير عن المدركات العقلية لغويا. الوعي فهم العقل المعرفي المجرد في تعبير اللغة عن موضوعه. الواقع بموضوعاته وموجوداته المستقلة لا تحتاج الوعي بها قدر حاجة الانسان التعبير عنها.
2.العقل والخيال
كنت دائما اعتبر الخيال راس مال المفلسين بالحياة مع الاعتذار للمواهب الادبية والفنية والجمالية التي مصدر الهامها الخيال وليس الذاكرة والواقع فقط. وحين وجدت ديفيد هيوم يشن هجوما لاذعا على خاصية الخيال عند الانسان باعتباره الخيال هو التفكير المترهل غير التحفيزي المتكاسل الذي لاقيمة له انكر هيوم ان يكون للذاكرة علاقة بالخيال... ومثله فعل برجسون.
فالذاكرة مخزون معرفي خبراتي متراكم. والخيال هو ابتداع تفكيري لمواضيع تفكيرية يحكمها توقيت التفكير والوعي القصدي بها. بهذا المعنى الخيال يكون في حقيقته (لازمني) أي لا يحكمه الزمن وإن كان الخيال شعوريا. وهذا لا يناقض ولا يلغي مقولة فرويد اللاشعور لا يحتاج الزمن.
هيوم زاد قناعتي التسليم بالخطأ الذي قال به أن لا قيمة للخيال في عملية الادراك العقلي. واصبح هذه الاعتقاد عندي ملازما لي الى أن بدده انشتاين قوله اعلى مراتب ما يمتلكه الانسان هو خاصية الخيال وليس خاصية العقل. وليس تفسير هذا ان الخيال ينتج العقل عند انشتاين بل العكس لا خيال بعدي بغير وجود عقلي قبلي. وهنا المقايسة المقارنة المعيارية بين العقل والخيال ليست على مستوى بيولوجيا العقل العضوية.
بتفسير اوضح أنه لا مجال نكران تفكير العقل بمواضيع غير مدركة ماديا هي خيالا مصدره العقل. هنا اهمية العقل واهمية الخيال لا يتحدد دورهما في التراتيبية العضوية الادراكية للعقل في الاقرار الخيال ناتج عقلي لا ينوب عن تفكير العقل ولا يتقدمه. انت مثلا لا تستطيع القول ان تعبير الوعي عن الاشياء هو لغة تجريد وشكل تعبيري بلا مضمون او محتوى هو تفكير العقل. او التعبير عن التفكير هو مضمون لا يأخذ شكل اللغة الابجدية الصوتية. تفكير العقل داخليا وخارجيا هو لغة ابجدية صورية صامتة داخل جسم الانسان وخارجه.
ومن الجدير ذكره ان فوكو وهيدجر وسارتر ونيتشة وغيرهم يعتبرون هذاءات الجنون غير المفهومة هي نوع من خيال لا يقل خصوبة ابداعية في التعبير عن واقع وجودي نجهله لا ندركه نحن مثلما لا يدرك المجنون عالمنا. وربطوا لغة غطرفة المجانين بلغة تطرف التعبير الشعري الذي لا يوازي الواقع بل يقاطعه عند الشاعر او الفنان التشكيلي.
هنا تفكيك نحو وبلاغة اللغة المعتادة واصوات الدلالة عن الاشياء في تعبير الشاعر الذي يتم في بعضه بهيمنة اللاشعور الخيالي على منتجه الشعري لكن كل هذا لا يلتقي ولا يشبه تعابير هلوسات الجنون عن عالم لا ندركه بلغة تداعيات الجنون الهسترية والصوتية التي لا معنى تواصلي لنا بها كما هو حال اللغة.
لغة الخيال هي قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر, باختلاف ان لغة الفلسفة تخضع لسطوة العقل ,بينما الشعر يعيش لغة وخيال اللاشعور. الزمن والعقل جوهران يحكمان الانسان ان يكون اللاشعور مدركا عقليا. مصداقا لمقولة فرويد اللاشعور اي اللاوعي لا يحتاج الزمن. بينما العقل لا يدرك المكان من غير ملازمة الزمن وهي مقولة افتراضية غير متحقق برهانها فليس من المؤكد ان العقل يعجز ادراكه المكان بغير ملازمة الزمن. ربما تثبت الفيزياء مستقبلا ان الزمن وجود احتوائي لا يدركه العقل لذا تصبح عملية التشكيك بالزمن كوجود دلالة عن المكان مسالة تحتاج برهانها وليس التنظير لها.
3.معيارية الاخفاق
يقول احد اقطاب الفلسفة الوجودية كارل ياسبرز (حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان). اجد في العبارة دينامية الاخفاق في بعض شؤون الحياة هي التي تنمّي عند الانسان ملكة تصنيع ماهيته القائمة على تجاوز الاخفاقات الخاطئة.
النجاح يأتي مرة واحدة في الحياة وما ينبني عليه ليس اضافات من النجاحات النوعية الفرعية غير المتناغمة مع الاصل بل هي تراكمات كمية على اصل النجاح. النجاح التراكمي على النجاح الاولي المبكر خطأ يلازم (زمنا) يجعل منه نجاحا نسبيا.
تاريخ الانسان منذ بدء الخليقة على الارض هو تاريخ تصحيح اخطائه في حياته وفي حياة الاخرين اذا استطاع ذلك تصحيحا نوعيا. الانسان حياته قائمة على معالجة اخطائه وليس معالجة ومراجعة كيفية نجاحاته. الاخفاق وثبة تحفيز عبور نحو ارادة الوصول عتبة النجاح وليس مرحلة استهلاك الانسان نجاحاته بالحياة. نظرية العقل والتحول اللغوي وفلسفة اللغة وفلسفات اللسانيات الماثلة اليوم كلها تعتاش على مقولة وجوب تصحيح اخطاء اللغة عبر العصور التي اوقعتنا في تضليل معرفي لا براء منه ولم تنجح المحاولة.
4. الزمن يسبق الوعي الحقيقي, والزمن بعد سببي للزمكان
لا يوجد تراتيبية معيارية تجعل من الوعي ثانويا على اولوية الزمان. الزمان افتراض وهمي جوهري ميتافيزيقي الدلالة بالاسبقية الكونية التي تحكم الطبيعة والوجود الانساني. والقول (الوعي هو نوع من التحرر من الواقع) عبارة ليست صحيحة في عدم امتلاكها تحققها البرهاني. الوعي ذاتي النشأة والوجود بمعنى الوعي لا يزامن الواقع كما في ملازمة الزمن له. الذي هو اي الزمن يسبق الوعي الحقيقي كما هو يسبق الواقع ايضا. علاقة الوعي بموجودات العالم من حولنا تعطيه السمات التالية:
- الوعي تجريد فهمي معرفي حيادي لا جدلي في علاقته التعبير عن الاشياء.
- الوعي لا يرتبط بعلاقة سببية مع الواقع ولا بعلاقة جدلية معه كي يتحرر منه.
- الوعي لغة تعبير تجريدي عن الواقع لا يمتلك فعل تغيير موضوعاته الا باسترشاد عقلي .
- الزمن هو بعد لا سببي قبلي في وعي الزمكان معا بخلاف الوعي الذي هو بعدي على ادراكه الواقع في توصيفه العقلي.
- علاقة الوعي بالواقع هي علاقة معرفية تكاملية مع الواقع بينما الزمن هو علاقة حياد ادراكي للواقع.
- الوعي بخلاف ادراك الحواس هو مرتبة ثانوية بعد الادراك الحسي.
- الوعي هو تلك المعرفة الواقعية للأشياء التي يبت بها الدماغ.
5. الزمن يسبق الوعي ويزامن المكان
الزمن يسبق الوعي وهما الاثنان الزمن والوعي تجريدان غير متجانسين, فالزمن في اسبقيته الوعي بديهة معرفية منطقية في حال البرهنة عن وجود زمني يلازم الوعي الادراكي والواقع معا. فالزمكان المتعالق ليس من السهولة ادراكهما منفردين مستقلين. اذ قد يتحقق ادراك المكان من غير فرضية ملازمة الزمان للمكان. كون الزمان غير مدرك للعقل لا بالماهية ولا بالصفات. لذا عرّف ارسطو الزمن هو قياس مقدار حركة جسم والزمن ليس بحركة مستقلة يدركها العقل.
مطلق الزمن الافتراضي غير المدرك عقليا سوى بدلالة حركة الاجسام داخله التي استرشد بها علم الفيزياء وغالبية الفلاسفة معا. في حين الوعي يمتلك خاصية تعالقه وتداخله مع كل من العقل من جهة وموضوعات ادراكاته من جهة اخرى. بمعنى الوعي بالأشياء لا يحتاج لزمن ادراكها.
الزمن وعي دلالة مطلقة غير مدرك عقليا, والوعي دلالة معرفية ندركها بدلالة مزامنته تعبير اللغة عن الاشياء. واما عبارة (ان يكون الزمن بعد سببي للزمكان) فهي عبارة لا تستحق مناقشة خطئها. فالزمن مفهوم وجوهر افتراضي خاصيته الاحتواء الشامل لجميع الموجودات كمعطى سببه ميتافيزيقي غير معلوم. الزمن لا يتخلق عنه وجودا مكانيا مدركا. اي الزمن غير المدرك لا يكون سببا في تخليق موجودات ندركها ماديا او خياليا.
فنحن مثلا نردد الزمن يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيئا هي عبارة لا تمتلك برهان تحققها الفيزيائي لكنها مقبولة منطقيا في إفتراضيتها. الزمن الافتراضي الوجود خاصيته الاحتوائية لجميع الاشياء لكن ليس بالضرورة يكون سببا في وجودها. كما الزمن ملازمة افتراضية ايضا ندركها بحركة الاجسام داخلها في قياس مقدار المسافة التي يقطعها ذلك الجسم المتحرك.
الزمن لا يمكن ان يكون سببا للزمكان حسب العبارة الفلسفية الخاطئة التي مررنا بها. هل من المنطقي المقبول ان نقول الزمن سببا لزمن آخر؟ وكذلك ان نقول الزمن سبب لمكان ايضا؟
نختم بعبارة ميتافيزيقية لافلاطون لا يمكن دحضها كما لا يمكن اثباتها ما معناه المكان معطى وجودي مكتسب ترجيحا ان له سبق الاولوية الوجودية على الزمن وتنظيم الزمن يتم بدلالة تنظيم المكان. وليس بمقدور الزمن تنظيمه عشوائية المكان فالزمن ادراك محايد لا يتموضع تكوينيا بالواقع ولا يكون سببا في خلقه الاشياء. هنا لا يمكن ان نتصور وجود الطبيعة والانسان سابق على ثانوية الزمن العشوائي الذي بدلالة نظامية المكان ينتظم الزمان حسب افلاطون.
6. (العدم لا يعدم نفسه)
قال كلا من سارتر وهيدجر (العدم لا يعدم نفسه).
حقيقة العدم هو الحتمية الملازمة للكائنات الحية لغرض إفنائها. لذا العدم لا يسبق الوجود ولا يعقبه, بل العدم هو ذلك الجوهر غير المدرك لا في ماهيته ولا في مواصفاته الذي يلازم الكائنات الحية. والعدم كما لا يدركه العقل فلا تستطيع اللغة التعبير عنه كوجود مستقل يدركه العقل كموضوع. انه لمن السذاجة السطحية ان نقول الموت (العدم) لا يميت نفسه كون الموت غير مدرك عقليا لا بالماهية ولا بالصفات. نحن نعجز التعبير عن ماهية الموت بمعزل عن دلالته الافنائية التي لا ندركها الا ببقاء جثة الكائن الميت وقد فارق الحياة. لا يبقى شيئا اسمه العدم بعد فناء الكائن الحي بالموت.
نحن لو عدنا على بديهية الاخذ ان المادة لا تفنى ولا تستحدث نفسها من عدم, ندرك خطل عبارة هيدجر قوله الوجود ينبثق من هاوية عدم سحيقة.
العدم لا شيء لذا هو عاجز عن انبثاق الوجود من جوفه. مسالة اخرى لا يمكن ان يكون وجود الشيء موجودا وغير موجود في آنية زمنية واحدة. الوجود الذي يفنيه العدم بالموت لا يمكنه تكرار نفسه وجودا بالحياة بنفس الماهية والصفات. كل شيء بالوجود ندركه متحركا او ثابتا هو محكوم بسيرورة من التغيرات التي لا نهاية لها.
اضف تعليق