اثبت التطور الانثروبولوجي للإنسان أنه لا توجد هناك حقيقة تامة كاملة صحيحة مطلقة ثابتة زمكانيا يقدر الانسان التحقق منها أو الوصول لها ويعيشها، يشمل هذا أبسط الظواهر الى أعقدها فهي حالة من الحياة والموت المستمرين الى ما لا نهاية، حالة من الحضور والاندثار، حالة من الصيرورة...
تمهيد: اثبت التطور الانثروبولوجي للانسان أنه لا توجد هناك حقيقة تامة كاملة صحيحة مطلقة ثابتة زمكانيا يقدر الانسان التحقق منها أو الوصول لها ويعيشها، يشمل هذا أبسط الظواهر الى أعقدها فهي حالة من الحياة والموت المستمرين الى ما لا نهاية، حالة من الحضور والاندثار، حالة من الصيرورة والتكوّن التي لا تنفك معالجة أخطاءها على الدوام بغياب مطلق الحقيقة كمثال وهمي تقتفيه فلسفة المعرفة بلا جدوى ولا وجود حقيقي له وإنما المطلق في حقيقته غير الادراكية التي لا يمكن الوصول لها، هي مفهوم لوجود إفتراضي يسعى الانسان بلوغه دون محصلة. فمطلق الحقيقة مفهوم ميتافيزيقي وليس موضوعا يدركه العقل واقعيا.
برادلي واشكالية الحقيقة
إعتبر الفيلسوف الانكليزي برادلي توفي منتصف القرن التاسع عشر عاش حياته زاهدا محروما مريضا من كل بهيج ممتع نعتبره اليوم من طبائع حقوق الانسان بالحياة مثل الزواج وتأمين متطلبات العيش بكرامة حيث مات منعزلا معدما.
إعتبر برادلي كل حقيقة نتعامل معها بالحياة علمية أو غير علمية تحمل نسبيتي الصح والخطأ معا، وهذه النسبية توقعنا على الدوام نتيجة تفاوت غلبة الصح على الخطأ أحيانا وبالعكس في الحكم على ما هو صحيح خاطئا في مرحلة متقدمة وظروف متغيرة نجده فيها أصبح الأصح من سابقه حاضرا وجودا في مرحلة لاحقة عليه.
لكن كيف يكون حكمنا يقينيا في تفريق خطأ الشيء من صحته؟ الجواب الاحتكام بقياس معيارية حقيقة كل شيء في عالمنا والحياة التي نعيشها هي حقائق نسبية زائلة أمام السعي المتواصل في الوصول الى (مطلق) الحقيقة التي هي إفتراض وهمي غير موجود سوى في تفكيرنا اليوتوبي الحالم بيقظة هناك مطلق لم ندركه يروم وصوله طموح تفكير العقل الانساني في ملامسة تخومه المطلقة اللانهائية غير المدركة خارج تفكير طموحات العقل بلوغها.
وحكمنا على الشيء يحمل صفتي الصواب والخطأ معا. هنا يكون حكمنا على كل شيء يحمل تمام الصواب هو خطأ مضمر سينكشف لاحقا والعكس منه صحيح. من ضمن ذلك حقيقة عالمنا الذي نعيشه فهو يحتمل صفتي الزيف والحقيقة معا فلسفيا. وهذا لا يعني معادلة طرحها بعض الفلاسفة هي هل وجودنا وعالمنا الذي نعيشه وهما أم حقيقة؟
برادلي أثار تساؤلا إعتبره مفتاح الحل هو هل الحقيقة التي نسّلم بصحتها في وقت ما هي مجرد (درجة) في سلسلة مسيرة المعرفة اللانهائية المكونة من حقائق نسبية يتحتم زوالها ونكتشف خطأها في سلم السعي الدائب للوصول الى حقيقة أصح منها تقوم على تخطئة الصواب النسبي السابق عليها وهكذا تستمر الحياة في مسيرة تصحيح وتجاوز أخطاء ماكنا نعتبره حقيقة صائبة يصبح ونجده خطأ علينا تجاوزه؟
الحقيقة في أصالتها الصحيحة وتمام إدراكها هي طموح وهمي زائل يفنى لا محالة في سلسلة تجاربنا في مسار التقدم المعرفي والتقادم الزمني معا؟. ولو كانت الحقيقة درجة وفعلا هي كذلك أحيانا في حياتنا فمن السهل أن لا نستغرب إندثارها مخلية السبيل أمام حقائق أخرى اكثر صدقية منها تليها وأكثر مقبولية صادقة على التوالي.
ولو نحن إعتبرنا الحقيقة (نوعية) وليست درجة فهنا تكون الحقيقة تحمل صفتي التناقض المتعايش داخل الحقيقة الواحدة في تفاوت طغيان صفة الصواب مرة وصفة الخطأ مرات وهذه الحقيقة النوعية هي السيرورة الحياتية دائمة الاندثار والتجدد والاستحداث المستمر في مسعى الوصول الى تمام الحقيقة على طريق (المطلق) الحقيقي المحال بلوغه.
بمعنى شديد الاختصار الحقيقة الدرجة فناء حتمي زائل، والحقيقة النوع سيرورة لا تندثر كلية من جدل التضاد والخطأ داخلها بما يجعلها حالة تجدد مستمر يطاول الزمن لكنها تكون عاجزة الوصول الى يقين مطلق الحقيقة الذي هو إفتراض وهمي لا يمكن التحقق من إدراكه. حين نقول الحقيقة كمفهوم معرفي فلسفي علمي لا يفنى ولا يزول فهذا لا يعني اننا انكرنا الحقيقة الفيزيائية العلمية المادة لا تفنى ولا تزول نهائيا. فمفهوم الحقيقة ليس (مادة) في وجود انطولوجي واقعي متعيّن. لذا تكون ماهيات المفاهيم تتبدل وتتغير بخلاف ماهيات المادة فهي ثابتة دائما وابدا.
إذن بضوء ذلك نكرر ما الفرق بين الحقيقة (درجة) عن الحقيقة (نوع)؟ الحقيقة الدرجة في سلم المعرفة هي وجود وقتي لها محكومة بحتمية الموت والاندثار والزوال النهائي مخلية الطريق أمام إستحداث أخرى أكثر صوابا وصدقا، أما الحقيقة النوعية فهي عملية سيرورة تصحيحية متقدمة باقية على إمتداد العصور رغم تعايش الخطأ والصواب في تضاد يحكمه جدل تطوري يعتمل داخلها.
التضاد الجدلي المادي لا يفني المادة بل يستحدث الاكثر من سابقتها جدة ومقبولية وصواب. اما تضاد المفاهيم فيحكمه جدل البقاء للاصلح بمعنى جدل الزوال والفناء الاستعمالي الحضوري من الحياة في استحداث ما هو اكثر صدقية من مفاهيم ايضا يعتمل داخلها التضاد التطوري وليس التضاد الافنائي بالكامل. فالمفهوم كفكر تجريدي في تمثله الواقع هو لا يختلف عن المادة كوجود واقعي في محكومية كليهما لحتمية التطور. والعدم يفني ما هو حي من الكائنات ولا يفني ما هو مادي بلا روح في الموجودات الطبيعية.
اين حقيقة وجودنا؟
زعم الفلاسفة منذ القدم أن ما قد يظهرلنا من العالم ليست حقيقته بل شبحيته الزائلة وهو ما ردده افلاطون ايضا. فالذي يظهر أمامنا من ظواهر واشياء ندركها ونحسبها مكتسبة صدق الحقيقة الثابتة بالحواس لا تلبث أن تزول وتتلاشى وتفنى على إمتداد زمني تعاقبي لذا نجد الفلاسفة منذ عصور طويلة تساؤلوا" هل الوجود الحقيقي هو غير هذا الوجود الذي نعيشه الزائل الفاني في جميع مكوناته وظواهره التي نعيشها بزيف نتكيف التعايش معه في عجزنا إثبات لا حقيقته؟".
كما نعلم ذهب الايليون وأقتفى أثرهم افلاطون ومن بعده عشرات الفلاسفة منهم نيتشة وهيدجر التفرقة بين عالمين عالم الظواهر وعالم الحقيقة، ورأوا عالم الظواهر الذي تحكمه الحركة والتغيير والسيرورة الدائمية، والتعدد والكثرة، هو عالم الوهم والزيف واللاحقيقة الذي تدركه الحواس في إحساسات زائلة. أما عالم الحقيقة – الذي يحكمه الثبات - تحكمه ميزتان أساسيتان هما الوحدة والكون الذي يدركه العقل المفكر. وعالم الحقيقة النوع لا تدركه الحواس ولا يمكن معرفته أو أن نشعر به.
بالحقيقة لا إختلاف حقيقي من وجهة نظرنا في كلا الاحتمالين المصاغين بلغة فلسفية طالما مرجعية كل مدرك نعيشه ويتعايش معنا هو العقل. فادراك الحواس الذي بضوئه حسب رأي بعض الفلاسفة يكون عالما زائفا، هو نفس ادراك العقل الذي يعتمد الحواس في إدراكه وفهمه العالم من حولنا الذي يعتبره نفس الفلاسفة عالم الحقيقة الصادق الصحيح غير المخادع.. بمعنى أكثر توضيحا من المحال إمتلاك الحواس منفردة قدرة بناء عالم نعيشه وندركه زائفا كون الحواس تضليلية لعقولنا. كما ولا يمكن لتفكير العقل بناء عالما حقيقيا نعيشه بمعزل عن عالم الحواس الخداع. ثم بأية آلية كيفية يمكننا تمييز عالم الزيف عن عالم الحقيقة؟ هل بالاحتكام للحواس وحدها منفردة وهو محال، ام بالاحتكام الى منطق العقل المعزول عن بدئية مدركات العقل للعالم عن طريق الحواس وهو محال ايضا؟
الحقيقة والمناطقة
السؤال الذي أثاره برادلي ونحاول مناقشته وأشرنا له في سطور سابقة هو هل الحقيقة (درجة) زائلة في نشدان المطلق، أم الحقيقة (نوع) ثابت يحمل نقيضيه في تضاد الصح والخطأ النسبيين معا معرفيا جدليا في تفاوت غلبة صفة الصح أحيانا على حمولة الخطأ، وغلبة صفة الخطأ أحيانا أخرى على حمولة الصح الصواب؟
جواب الفلاسفة المناطقة أنهم لا يعترفون بهذا التصنيف لما يبدو حقيقي مؤقت وما هو خاطيء محكوم بحتمية الاندثار والتلاشي العدمي. قولهم في حال إعتبارنا الحقيقة (نوع) يحتمل صفتي الخطأ والصواب معا، فهي لا تنطبق عليها المقولة المنطقية: لا يكون معنى الشيء صحيحا وخاطئا في وقت واحد والثالث مرفوع بينهما. وهو ما لا ينطبق على كل حقيقة نتداولها بمعيارية الصح والخطأ أو ظاهرة نعيشها أيضا بمعيارية الصح والخطأ.
والإحتمال الوهمي (الثالث المرفوع) الذي يتوسطهما في جمعه الصح والخطأ يكون غير موجود فلا يمكن أن تكون الحقيقة صائبة وكاذبة في وقت واحد فهي إما أن تكون صائبة وإما أن تكون خاطئة مغلوطة والجمع بين الصفتين صائبة وكاذبة لا يقبله منطق العقل.
لكن الحقيقة كلاما ولغة يمكن أن تكون صحيحة تحتمل الخطأ أو خاطئة تحتمل الصح في محاولة إستعارتنا تعبيرات صوفية الشيخ جلال الدين الرومي. وهذا يساير المذهب الفلسفي الذي يرى أن الحقيقة كنوع لا تندثر بالزوال الذي يبطل التطور المعرفي الانساني، لذا فالحقيقة النوعية سبب تطورها وعدم اندثارها مع الزمن أنها تحمل وتجمع داخلها نسبية وجود الصواب ونسبية وجود الخطأ معا حتى على صعيد حقائق العلم. وتبقى السيرورة الزمنية الفيصل بين الاندثار الحتمي الخاطيء للحقيقة الدرجة والصواب الحتمي للحقيقة كنوع من السيرورة الدائمية لا تندثر ولا تفنى. ولا يعني هذا أن الحقيقة النوع لا تحمل معها صفتي الخطأ والصواب معا في تضاد جدلي داخلها لاحقا يعيق تجاوزها.
سقراط والمثالية
حول مفهوم حقيقة عالمنا المادي كان أفلاطون يرى كل ما تدركه الحواس متغيرا غير ثابت لا يمكن التعويل على صحته والاخذ به، وهو نفس ما قال به الايليون أن مدركات الحواس خاطئة زائلة ومدركات العقل ثابتة وهي تمثل الحقيقة الصواب.
طبعا لو نحن سلمنا علميا كما في وقتنا الحاضر الحواس هي مبتدأ ادراك العقل لعالمنا وموجوداته فلا يبقى معنا أي معيار حقيقي ينكر على الحواس عدم صدقيتها لأنها متغيرة بما تنقله من إحساسات زائلة ويأخذ بمعيار العقل الثابت الذي يتجاهلون فيه أن معيارية صدق أفكار العقل بدايتها هي ما يستقيه العقل من حقائق ثابتة نسبيا يكون مبتدأها الحواس.
مبتدأ إدراك الحس العقلي هو الوجود السابق على الادراك والحواس المدركة له ومن دونهما لا يدرك العقل شيئا لا ثابتا ولا متغيرا متحركا بمعنى المحكوم بالاندثار والزوال كما ولا يستطيع بناء حقائقه بغير إحساسات الحواس الادراكية حتى لو كانت على شكل إنطباعات مؤقتة زائلة يستمدها من موجودات العالم الخارجي.
سقراط كي يخلص من هذه الاشكالية التي تنتصفها الميتافيزيقا وتتوزعها جوهريا كمفاهيم مطلقة لا يمكن التحقق من محدوديتها الادراكية لها كغيرها من الاشياء والموجودات أنطولوجيا، إتجه سقراط نحو عالم (المثل) المطلقة المقارن بعالمنا المادي وظواهره الذي نعيشه. معتبرا الكمال الحقيقي موجود في المطلقات التي هي مفاهيم نتقاسمها مع صفتي التحقق منها وصفة المطلق الميتافيزيقي الذي ننشده ولا ندركه متمثلا بالكمال الذي لا يمكن بلوغه.
لذا إعتبر سقراط مفاهيم مطلقة مثل الاخلاق والشجاعة والمباديء والتقوى والعدالة والفضيلة والشجاعة سر قوتها في حقيقة ثباتها غير الزائلة عبر العصور ولم يكن موفقا في تعبيره بمعايير ما وصلناه من معرفة اليوم إذ أصبحت حتى هذه المفاهيم رغم مطلقيتها غير المحدودة إلا أنها أصبحت محكومة بزمن التغيير والتبدل وليست ثابتة كمباديء ازلية. فمثلا صدق الاخلاق لم تعد اليوم ثابتة لم تتغير كما كانت سائدة قبل عدة قرون ومثلها مع الشجاعة والتقوى والعدالة وغيرها. فهي مفاهيم أصبحت معيارية يحكمها التغير الزماني والمدني الحضاري للانسان. فشجاعة السيف التي سادت قرونا طويلة من عمر البشرية نجدها تراجعت اليوم أمام شجاعة الرأي والحكمة الأكثر جدوى مقبولية من وحشية شجاعة السيف وهمجيته الدموية.
إعتبر سقراط هذه المباديء المفاهيمية الانسانية المطلقة مثل صفات الاخلاق والعدالة والحق حقائق ثابتة صادقة لا يمكن التشكيك بها، وهذا الصدق المطلق الثابت للمفاهيم يرفض ما يدور حوله من ظواهر متغيرة زائلة تلازمه لا قيمة حقيقية لها. قائلا "كل ما يتّغير لايكون علما بالمعنى الدقيق، فالعلم لا بد أن يتصف باليقين الذي لاتزعزعه إختلافات الناس حوله ولا إختلاف العصور بالتقادم الزمني عليه.
سقراط هنا إعتبر المفاهيم الثابتة مثل الاخلاق والفضيلة والعدالة التي لا تتغير هي مباديء (علمية) لا تحتاج البرهنة على صدقية يقين العمل بها. ولم يناقش سقراط مسالة نسبية حقائق العلم هي الاخرى غير ثابتة ومتغيرة حالها حال المفاهيم المطلقة الانسانية المجردة التي لا يمكننا هي الاخرى التحقق من ثباتها في مطلق الوجود وعلة ذلك أننا نتعامل بها كثوابت مبدئية تتطور وتتقدم وليست مطلقات لا يمكن التنبؤ بها أن تكون وقائعا نعيشها.
فالقيم الاخلاقية وجميع المفاهيم الاخرى التي تشابهها في اليقين التسليمي لنا بها هي ايضا متغيرات عبر العصور والايمان بمطلقيتها الثابتة ضرب من الخيال الاخلاقي السليم القصد الذي يجعل من الاخلاق مرتكزها نزعة الخير الانسانية المزروعة في النوع الانساني بالفطرة.
نعزو سبب هذا التداخل المفهومي بين إن كانت الاخلاق والشجاعة والحكمة مباديء مفهومية مطلقة ثابتة أم هي سلوكيات متغيرة متبدلة عبر العصور والازمان معيار ذلك الحقيقي هو ما توصل له التقدم العلمي في فرزه مابين التحقق من صدقية حقيقة أي شيء هو التجربة ويكون حقائق علمية نسبية، وبين المفاهيم الاخلاقية التي لا يخضع التيّقن من صحتها معيار التجربة العلمية التي لا تنطبق عليها فهي افكار افتراضية مجردة خارج تصرف السلوك الانساني بمقتضاها لذا إعتبرها العلم علوما انسانية التحقق منها يكون على صعيد تقصّي حقائق الاركيولوجيا وحقائق التاريخ الاثارية الخفيّة والمكتشفة منها والمكتسبة.
حين نقول اليوم علم الاخلاق أو علم التاريخ أو علم الاديان أو علم اللغة فهي لم ولن تكون معيارية إكتسابها الصفة العلمية فيها تكافيئ معيارية إكتساب العلوم الطبيعية في (التجربة). إختلاف التجربة العلمية أنها غير ثابتة متغيرة على الدوام في توازي متغيرات معيارية التحقق من حقائق العلوم الانسانية دائمة التغير ونسبية الصواب فيها خارج التجارب العلمية في إعتبار فلاسفة اليونان ماهو ثابت يعني ما هو حقيقي دائم مطلق لا يتغير عبر العصور والازمان وهو ما ثبت خطأه البديهي اليوم.
هذا الاختلاف العصري التمديني فرز ما هو علمي مكتسب يقينه بالتجربة وبين ما هو علم انساني لم يكتسب ولا يكتسب يقينيته بالتجربة العلمية كونها علوم مفاهيمية مجردة انسانية لا تقوم على معطيات واقعية مدركة تنطبق عليها تجارب العلوم الطبيعية. ولم يكن مثل هذا الفرز موجودا معروفا عند الايليين في إعتبارهم ثبات الحقيقة يعني هي ماهيتها الجوهرية التي لا تتغير. تاركين معرفة أن ثبات الماهية بالاشياء – في حال إفتراض صحة التحقق من وجودها في الاشياء الذي يدركه العقل – هي من مدركات العقل الخيالي غير العملي وليست من المدركات العقلية التي تؤيدها تجارب العلم أو التحقق الادراكي من حقيقتها... ماهية الاشياء الفلسفية هو إفتراض تحكمه الشكوك وفقدان البرهان عليه أرجح من أن تكون ماهية الاشياء حقيقة قابلة للادراك العقلي.
الحقيقة والماهية
بالعودة الى برادلي نجده تجاوز سقراط قوله الحقيقة الكاذبة الزائلة مصدرها الحواس، والحقيقة الثابتة الصائبة مصدرها العقل، الى القول تنقسم الحقيقة الى (درجة) محكومة بالزوال مصدرها الحواس، والى حقيقة (نوع) مصدرها العقل وميزتها الثبات المستمد من ثبات (ماهيتها). هنا اراد برادلي التفريق بين الصفات الخارجية المتغيرة في الاشياء وبين ماهياتها الثابتة التي لا تتغير وهي ثابتة تمثل حقيقة الشيء. وهذه الفكرة كانت واضحة عند افلاطون الذي كان يعتقد أن عالم الحس هو عالم التغيير غير الثابت لذا فهو غير حقيقي لان الحقيقة ابدية ساكنة لا تتغير، والحقيقة كلية لانها تقوم على اساس الماهيات الثابتة كما سبق لسقراط قوله.
بمجيء كانط من بعد اسبينوزا حسم المسالة بذكاء محايد دونما الخوض في معترك الاشكالية قوله " العالم قسمان هما عالم الظاهر وعالم الباطن أو عالم الشيء بذاته. فهناك الظواهر والاشياء – والقول لكانط - على نحو ما تبدو لنا، ثم هناك الاشياء كما هي في ذاتها. وأضاف وليست تلك القسمة خاصة بالعالم ككل وحسب، وإنما كل شيء من أشياء العالم له ظاهر وباطن أو مظهر وحقيقة".
تعقيب
- كانط برأيه الذي اشرنا له كان مراوغا ذكيا حين وصف العالم الباطن هو ما يمثل حقيقة ذلك العالم أو الموجودات، وتحاشى القول بصريح العبارة كل موجود له ظاهر متكون من مجموع صفاته الخارجية المدركة حسيا وعقليا، وله جوهر خفي يحتجب خلف صفاته الظاهرة يمثل حقيقته الثابتة التي أطلق عليها سقراط الماهيات.
- كانط يعرف حقيقية الاشياء في جوهرها غاية لا يدركها العقل وقال ذلك بكتابه نقد العقل المحض، العقل الذي يدرك الظواهر فقط أي يدرك إحساسات ما تنقله الحواس. ويعرف كانط ايضا بخلاف اسبينوزا أن الموجود لا يدرك عقليا بدلالة الماهية أو الجوهر التي قال بها قبله اسبينوزا أن الوجود يدرك بدلالة الجوهر غير المدرك عقليا لما يحتويه طرح اسبينوزا من ميتافيزيقا دينية اجتنبها كانط بحذر شديد.
- مفارقة عجيبة قال بها اسبينوزا وردد عكسها كانط. يترتب على ذلك تساؤل كيف يجزم كانط أن حقيقة الشيء أو العالم الموجود يبرهن صوابها بالماهية أو الجوهر أو الوجود بذاته لا فرق بين هذه التسميات جميعا، في حين جميع هذه التعبيرات لا تحتوي مضمونا يسترشد به العقل كون الوجود بذاته أو الجوهر أو الماهية لا يدركها العقل حسيا. فكيف تكون حقيقة العالم بكيفية ثابتة لا تتغير داخل كل موجود، وهذه الماهية الثابتة لا يدركها العقل لسببين: الاول لا نستطيع الجزم أن الاشياء والموجودات تمتلك ماهيات ثابتة أو جواهر ثابتة لا يدركها العقل ولا يعرف ماهي كي يترتب على معرفتها برهان حقيقتها الوجودية الصادقة. ثانيا محدودية الادراك العقلي عند الانسان يجعله عاجزا معرفة ماهيات الاشياء المحتجبة خلف صفاتها الخارجية أو ما يسمى الباطن. وكيف نثبت أن في باطن الاشياء توجد ماهيات لا يدركها العقل؟
- علينا التفريق بين وجهتي نظر فيلسوفين أحدهما كانط الذي لم يعتبر وعي الشيء بذاته وحقيقته يتوقف على معرفة ماهيته، كانط إعتبر معرفة ماهيات الاشياء ضرب من ضروب مباحث الميتافيزيقا وليست برهانا يمكن بواسطته الوصول الى حقيقة الشيء. ولم يجزم كانط أن جميع موجودات العالم من حولنا تمتلك ماهيات لا يدركها العقل. وترك الامر معلقا حتى مجيء فلاسفة الفينامينالوجيا بزعامة هوسرل الذي كان تاثيره الفلسفي قويا في الفلسفة الوجودية التي حسمت الموضوع على يد سارتر فقط دون غيره.
- بخلاف كانط كان سبق لاسبينوزا أن جاهر بأن ظاهر كل شيء يختزن جوهرا أو ماهية داخله لا يدركها العقل بدلالة صفات ذلك الشيء الخارجية، والجوهر أو الماهية لا تدرك بدلالة وجود الشيء، بل الوجود يدرك بدلالة ماهيته التي لا يدركها العقل لأن جواهر الاشياء هي من جوهر الخالق وإدراك الجزئي منها يكون متاحا بدلالته إدراك أجزاء أخرى غيرها هي من صفات جوهر الخالق وهو محال ويدخل في باب تشييء الخالق بصفات يدركها عقل الانسان.
اضف تعليق