q
إذا كانت الفلسفة فضاءات من التنوع البحثي لا يمكن تحديدها فهذا لا يعطي ضمانة طرح كل متناقض اجتهادي يرفضه بناء التاريخ الفلسفي على أسس منطقية لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن قراءة تاريخ الفلسفة خارج وبمعزل عن أنثروبولوجيا تطور الوجود الانساني تاريخيا عبر العصور، فاللغة وجود انطولوجي...

توطئة:

يشي عنوان المقال الى تنويعات من المخاتلة اللغوية بين تطابق دلالة الكلمة مع مدلولها الشيئي أو المعنوي غير الحسي التي رافقت فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات، كما في مصطلح مخاتلة اللغة في ادخارها فائض المعنى الملازم لها في تعدد القراءات للنص المدون المكتوب، فمدلول المعنى لا يطابق الفاظ الدلالة لها، وفي الخلاف المستدام فلسفيا ايهما يمتلك الاسبقية الكلام الشفاهي ام الكتابة ( خلاف البنيوية مع التفكيكية) وما يتعالق بهما من فوارق تجعل المساءلة هل تعبير الكلام هو ذاته في حمولته اللغوية الصوتية الناطقة لسانا تطابق دلالته الكتابية في المعنى حين يصبح نصا مدونا مقروءا، أم أن الكتابة ليست ترجمانا نقليا ميكانيكيا لصوت الكلام وليس للغة الفكر الاستبطاني، وحسب تمييز ارسطو أن الاصوات التي ينطقها الانسان أنما هي رموز لحالات نفسية، بما يعني أن الكلام لا يخضع للغة تفكير العقل الصارمة.

وأن الكتابة تخليق لغوي جديد في شكل اللغة مع مضمون مضاف له لما عجز الكلام الصوتي التعبير عنه؟ ومن المسؤول عن هذا التطابق أو التفاوت بين لغة الصوت وصمت اللغة عند نقلهما كتابة؟ هل آلية نقل ما هو غير مكتوب من كلام وتفكير صامت لا يشترط أن يكون هو الكلام الشفاهي كاصوات بل هو صمت الفكر كمعنى مضموني أدخاري متطاول في البقاء زمنيا أطول من بقاء الكلام المندثروقتيا، الذي يجري تخليقه بالعقل قبل تحويله الى لغة مكتوبة.

الفكر في لغة الصمت هو غيره الفكر في لغة الكلام.هل من الممكن عند نقل الكلام الشفاهي المنطوق، أوالكلام الفكري الصامت الى لغة الكتابة يكونان وفق آلية حرفية واحدة لا تضيف الكتابة شيئا لما تقوم بنقله من تجريد تعبيري لغوي في الكلام والفكر بعد تحويلهما الى واقع مادي في الكتابة؟ بمعنى هل من الممكن تصور تطابق ما هو لغة لفظية أو لغة فكر صامتة غير مكتوبة تطابقهما في المعنى الحرفي الدقيق لما قامت بترجمته ونقله الكتابة من لغة تعبيرية لم تكن مكتوبة سابقا؟ وهذه الحالة تختلف عن نقل وترجمة لغة مكتوبة لشعب ما الى لغة مكتوبة جديدة لشعب آخر. وهل الكتابة آلية مخاتلة مراوغة في عدم دقتها نقل ما هو لفظي صوتي كلاما أو ما هو لفظي فكري غير مكتوب؟ وهل تضيف الكتابة شيئا من المعنى غير موجود في نقلها الشفاهي أو الفكري الصامت؟

كتابة الصوت والفكر

ثمة رأي ليس من السهولة مصادرة صدقيته من عدمها قبل مناقشته يذهب الى (ان انتاج الكلام يمثل شيئا مختلفا عن مجرد الحركات الصوتية، اي هو كلام حي، لكن هذا الكلام الصوتي هو ما تقوم الكتابة بنقله وحده فقط). (1) في هذه العبارة حمولة خمس تساؤلات ما بين السطور يجب الوقوف عندها:

- انتاجية الكلام للغة كتعبير صوتي هو فعالية ذهنية يصفها بعض علماء اللغة أعتباطية عشوائية. وهي ليست أصواتا خالية من حمولة المضمون الفكري الذي يتجاوز الصوت في أفصاح عملية الكتابة له.بمعنى أن الكتابة ليست عملية كتابة دلالة الصوت من دون دلالة الفكر ولا الفكر من دون دلالته الصوتية في كلمات وتعابير اللغة.

- الكتابة تنقل كل ما هو لغوي لفظي منطوق وكل ما هو لغوي صامت في الذهن بآلية من الكتابة النقلية واحدة، فهي تنقل الكتابة الكلام الشفاهي مثلما تنقل الكلام التفكيري الصامت الى فكر صوتي مكتوب.. لكن الا يوجد فرق بين تفكير الكلام عن تفكير الفكر الصامت بلا صوت؟

- كيف نستطيع تمييز ما تنقله الكتابة صوتيا أنه هو الكلام الحي الحرفي او الكلام غير الحي بمعنى الزائل وقتيا من التعبير. والحي هنا (محتوى الكلام) الذي نجده في حمولة الفكر الصامت وليس في حمولة الكلام الشفاهي العابر؟ ما يكتبه تفكير العقل هو غير ما يكتبه تفكير الكلام الشفاهي العابر تحاوريا في ملازمة الصوت له.

- هل من الممكن تصور الحركة الصوتية هي غير الفكر الذي تحتويه المنقول كتابة؟ وهل من المتاح فصل ماهو صوتي بالكلام الى ماهو فكري فيه بالكلمات؟

- هناك تناقض واضح في العبارة حيث تقول أن الكتابة ليس تدوين الصوت لتعود التاكيد أن الكتابة تنقل الصوت فقط يعني كتابة بلا مضمون هو حمولة الصوت اللغوي حيث لا يوجد صوت تعبيري خال من حمولة دلالة فكرية حتى لو كانت بسيطة.

الكتابة ليست وسيلة تمييز ما تكتبه خارج تفكير العقل.بمعنى الكتابة تفكير مزدوج، في امكانية نقل كل لغة كتابة حرفية وامكانية أن تكون الكتابة تتضمن اضافة مضمونية جديدة لما تم نقله لغة صوتية، وهذه لا يتوقف على الكتابة من حيث هي آلية يتحكم بها شخص دون غيره يقوم بنقل ما هو غير مكتوب الى كتابة. الكتابة هي آلية انتقالية يقوم بها فرد وليس مجموعة أفراد في تزمين واحد، ويمتلك ثقافة بهذا المستوى أو ذاك ما يجعل ماينقله كتابة يتوقف معناه الحقيقي عليه وليس على المادة المنقولة التي يتحكم بها كتابة. مثله مثل المترجم الذي ينقل لغة كتابة نص الى لغة أخرى كتابة ايضا.اذ تكون الترجمة الحرفية تختلف عن الترجمة المضمونية التي يتحكم بها الكاتب وليس النص.

والكتابة لا تمتلك ذاتية تعبيرية منفردة مستقلة أن تكون هي من يحدد تمييز الفكر الصادر عن المخيلة الذهنية في تدوينها الآلي لما هو كلاما شفاهيا أو فكرا صامتا، وهذا لا يعني أن الكلام الشفاهي خلو من المعنى الفكري وبلا حمولة مضمونية تتعدى الصوتية اللغوية، كما أن امتلاك أي كلام شفاهي قدرا من الافكار لكنه بالنتيجة لا يرقى لافكار مضمونية انتاجية الذهن الفكر الصامت.

الكتابة تقوم بالتاكيد فرز ما هو كلام شفاهي عابر عما هو فكر بدلالة عميقة لا تصلح أن تكون حوارية كما في الكلام. والكتابة كآلية فنية ليس بمقدورها ذاتيا أن تمنح الكلام قيمة معرفية ليست فيه ولا تستطيع الكتابة تجريد الفكر الصامت بعد كتابته من حمولته المعرفية، والا تكتب ماذا في هذه الحالة كون الفكر الصامت بلا حمولة صوتية ترافقه، واذا قلنا الكتابة نقل ما هو صوتي فقط الى الكتابة نكون وقعنا في اشكال من التعبير حيث لا صوت بلا مضمون فكري دال.

فالفكر كحمولة يحتويها التعبيرين اللغويين الكلام والفكر الصامت ليس بذات الاهمية الذي يلغي التمايز المعرفي بينهما في نقلهما كتابة. وتضيف الكتابة لما هو شفاهي لكنها ليست الاضافة لما هو فكر صامت أخذ حيز تنفيذه كتابة دونما المرور بالمرحلة الصوتية كما في الكلام العابر.

نقد مفهوم الكتابة الام

جاء على لسان ثلاثة من باحثي القضايا الفلسفية في مؤلفهم كتابهم المشترك (فلسفة اللغة) حول خرافة مفهوم دريدا عن الكتابة الام ما يلي:( دريدا لا يمتلك رؤية متماسكة تجاه معظم مفاهيم التفكيكية مهما كان الترويج لها مثل مفهوم الاخ – ت – لاف. اراد دريدا تسويق مفهوم الكتابة الام دونما رؤية تاريخية في تعقب تطورات الكتابة، كما لا يمتلك دلالة برهانية صحيحة ترجح اسبقية الكتابة على الكلام)2.

دريدا في أبتداعه مصطلح الكتابة الام اراد التفلسف خارج أنثروبولوجيا تاريخ التطور البشري من جهة، وطرحه مفهوم متناقض حول اسبقية الكتابة على الكلام خارج منطق التفلسف الصحيح عبر تاريخ الفلسفة من جهة اخرى. فاذا كانت الفلسفة فضاءات من التنوع البحثي لا يمكن تحديدها فهذا لايعطي ضمانة طرح كل متناقض أجتهادي يرفضه بناء التاريخ الفلسفي على أسس منطقية لا يمكن تجاوزها. ولا يمكن قراءة تاريخ الفلسفة خارج وبمعزل عن انثروبولجيا تطور الوجود الانساني تاريخيا عبر العصور. فاللغة وجود انطولوجي وليست أصواتا ودلالات تجريدية خارج فهم الوجود الانساني كنوع.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
الهوامش: فلسفة اللغة/ سيلفان اورو، جاك ديشان ترجمة بسام بركة، الصفحتان 138، 139.

اضف تعليق