لابد أن أذكر مقدما أنني لم أكتب عن موضوع (إنصاف المثقفين) تحت ضغط الوازع الذاتي، فأنا والحمدُ لله لا أزال مستمرا بالعطاء، وحالتي الصحية جيدة، ولا أعاني من أية عوائق تُذكَر، أقوم بكتابة ما لا يقل عن ألفيّ كلمة يوميا.. وأحرر مواضيع بالعدد نفسي.. وأعيش بطريقة لا بأس بها من جهودي، أو كما يُقال (بعرق جبيني)، ولكن بعض الحالات التي تتعلق بكبار السن من المفكرين والعلماء والمثقفين دفعتني للكتابة عن هذا الأمر.
وربما اعتاد معظم المثقفين ومن يهمهم أمر الثقافة والمثقف، أن يتناولوا مواضيع تتعلق بأهمية رعاية الأجيال الثقافية الجديدة، ومد يد العون لهم، وتطوير مهاراتهم الكتابية، والسهر على مواهبهم وطاقاتهم الكامنة، وهو موضوع مهم وقضية تستحق أن ننشغل بها ونكتب عنها وننبّه عليها من يهمهم أمر النسغ الجديد، فمثلا دعونا في مناسبات عديدة الى أهمية رعاية المواهب الجديدة، من باب تواصل ونمو المواهب في الثقافة والفكر والعلم والأدب، وأهمية أن تكون الرعاية مزدوجة، مادية معنوية.. فضلا عن التطوير في مجال الكتابة نفسه.
كل هذه القضايا التي مرّ ذكرها مهمة، ولا ضير في الاهتمام الجدي بالشباب، بل هو أمر واجب وهدف يستحق أن نتعب فيه ونبذل كل ما يمكننا من جهود كي نرعى شبابنا، ونحمي قدراتهم ونطور مواهبهم، فهذا في الحقيقة من الأمور الحاسمة للحفاظ على الثقافية والقيم الثقافية والأنساق المطلوبة لإدامتها على نحو صحيح، فمن لا مستقبل له لا حاضر له أيضا.
لكن الأمر الذي لا ينبغي إهماله أو نسيانه لأي سبب كان، هو التذكير دائما بمن بذلوا أعمارهم من أجل الثقافة والفكر والإبداع على وجه العموم، نعم هذا أمر لا ريب فيه، فالثقافة تُبنى على خبرات ومهارات ومواهب وقدرات السابقين، أو من نطلق عليهم صفة أو تسمية (الرواد)، ومن يريد أن يحافظ على ما يمتلك من مهارات وخبرات موروثة في الثقافة أو سواها، لابد أن يحترم تلك الجهود التي أسست وثابرت لمواصلة الأنساق الثقافية كي تبقى متوهجة ومساهمة بصورة فعالة على الخصوصية والهوية الثقافية، مع مراعاة أصحابها ونعني بهم رواد الثقافة.
هنا نتساءل هل يحق للمثقف الرائد أو المخضرم أو الكبير في السن والتجربة أن يتقاعد، ويكف أو يتوقف عن تقديم المنجز الإبداعي، وماذا نعني بالتقاعد هنا، هل هو شبيه للتقاعد الذي يحصل عليه الموظف أو العامل في الدولة، أم هو تقاعد من نوع ثاني، في الحقيقة ما نهدف إليه من كتابة هذا الموضوع أمر واضح كل الوضوح وهو أساسي في الحفاظ على البنية الثقافية، من خلال الحفاظ على أهم أعمدتها ونقصد به المثقف صاحب الخبرة والتجربة الثقافية الرائدة، إننا نهدف بالدرجة الأولى الى عدم إهمال أعلام الفكر والثقافة بعد أن يصلوا الى سن لا يسمح لهم بمواصلة العطاء بسبب ضعف الحالة الصحيحة أو سواها.
نماذج من حالات إهمال الرواد
يعي كبار التجربة من المفكرين والمثقفين، أن عدم الاهتمام بالطاقات الجديدة تعني تدميرا حتميا لأسس الثقافة، ولكل ما قدمته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة في المضمار الثقافي، وهذا الوعي يمكن أن نعطيه صفة الانتقال من جيل الى جيل، حيث تتناقل جميع الأجيال الخبرات المختلفة عبر إظهار فعلي متواصل لنقل تلك الخبرات الثقافية المعرفية للنسغ الجديد، وهذا بحد ذاته ينبغي أن يعطي حافزا للمعنيين في إدارة الثقافة للتنبّه الى رعاية المفكر والمثقف بعد أن يصل سن التقاعد، وبعد أن تجبره ظروفه الصحية على التوقف.
من هذه الظروف مثلا، قلة البصر، ومنها أيضا ضعف الذاكرة (الزهايمر)، ومنها ضعف التركيز، وعدم القدرة على استخدام القلم او الأصابع في ضرب حروف (الكيبورد)، وحتى ضعف المقدرة على ترتيب الأفكار وطرحها في مقال أو موضوع أو اي نص في أي جنس أدبي يمكن للكاتب أن يبدع فيه، فعندما يصل الكاتب المفكر المثقف هذه المرحلة، قد يفقد مصدر رزقه الذي يعيله على أمور أساسية في حياته، منها الحصول على الغذاء والملبس والأهم من ذلك حصوله على الدواء للتخفيف من أعرضه المرضية ومعاناته.
هل حصل أن أُهمل مثقف كبير وبات في حالة يُرثى لها، سؤال تجيب عنه العديد من حالات الإهمال التي طالت المثقفين والمفكرين من كبار السن، فبعد أن قدم المفكر عصارة أفكاره، وقدم الأديب تجربة زاخرة بالجماليات والأفكار المتوقدة، والمثقف الذي قدم العديد من المشاريع في تجربة مستمرة على مدى سنوات، سوف يصل في نهاية المطاف الى مرحلة (جفاف إجباري)، فلا يستطيع بعدها أن يكتب ما يليق باسمه أو سمعته وتجربته، لهذا يميل الى الصمت والسكوت وانتظار ما تجود به الدولة عليه، وهذا في الغالب لا يحدث، فالإنصاف الذي يترقبه المفكرون والكتاب المخضرمون من الدولة قد لا يأتي مطلقا.
من الأمثلة الشخصية التي لا تزال ذاكرتي تزخر بها، ما حدث لأحد النقاد في نهاية عمره، يوسف نمر ذياب، ضليع في اللغة العربية وقواعدها، وناقد له قدرة على التحليل والتعامل مع النصوص الأدبية بمقدرة معروفة عنه في الوسط الثقافي والأدبي، كان هذا الناقد صاحب قدرات واضحة، وكان الأدباء والكتاب يترقبون اللحظة التي يكتب بها يوسف نمر ذياب عنهم، فهو سبيلهم الى الشهرة والانتشار.
انصفوا من يستحق الاهتمام
لذلك كثيرون كانوا يتملقون هذا الناقد، وبعد أن تغلّب عليه العمر وفتكت به السنوات القاحلة، لزم فراش المرض، ولم يعد يكتب إلا نادرا، وانطفأت الأضواء الإعلامية والأدبية من حوله وابتعدت عنه، مع هذا الابتعاد والانطفاء للأضواء، ابتعد عنه المتملقون، وأهملته المنظمات الثقافية، وأهملته الدولة أيضا، وربما يكون قد مات ميتة صامتة لا أحد يتذكره فيها، وإن حدث وتذكره بعض الأدباء أو المسؤولين، فإننا بارعون في تكريم من يغادرنا، وفاشلين في تكريم أحيائنا المتميزين من المفكرين والكتاب المبدعين.
هل يحدث مثل هذا الإهمال الغريب القاسي في مجتمعات وأمم وشعوب تحترم نفسها وإرثها وحاضرها ومستقبلها وثقافتها؟، كلا، لا يمكن للأمم الحية أن تهمل مفكريها ومبدعيها بهذه الصورة المخجلة، ولو أنني تطرقت الى الكيفية التي تم فيها إهمال العلامة (حسين علي محفوظ)، وعدم إنصافه وهو الذي أفنى حياته من أجل الثقافة والتراث والمثقفين، ولم يأل جهدا في تقديم كل ما يدعم المفكرين والمثقفين والثقافة العراقية.
ولكن من يستطيع الإجابة عن ذلك الإهمال وعدم الإنصاف المتعمَّد؟، وهل نأتي بأمثلة أخرى؟؟، لا أظن أن الأمر بحاجة الى أدلة أخرى، فهو موجودة في ذاكرة الثقافة وفي سجل ما حدث من تخلي غير مقبول لهؤلاء الكبار الذين قدموا كل ما يمكنهم تقديمه للثقافة والفكر، فهل هناك سبب واضح لحدوث مثل هذا العقوق الغريب، واذا كان المسؤول أو السياسي منشغل بمآربه المعروفة، ومصالحه التي لا تتوقف عن حد، فماذا يقول المثقفون أنفسهم، وبماذا سوف تدافع المنظمات الثقافية عن نفسها.
عندما يموت مفكر ومثقف وأديب، وعينه على من يقول له كلمة، كلمة سلامة لا أكثر تجعله يشعر بأنه لم يخطئ عندما أفنى حياته من أجل الثقافة والمثقفين، هل نحنُ نعظّم من هذه القضية، ونبالغ في حجمها، ونغالي في عرضها، هل نبتغي استدرار عاطفة أحد من المسؤولين؟ كلا وألف كلا، إنما هذه حقائق نعرضها على من يعنيه الأمر، وهذه حقوق المثقفين الرواد، لا يجوز بل لا يحق لأحد مهما كانت مكانته أو منصبه، كبيرا أم صغيرا، سياسيا أم ثقافيا، أن يحرم المثقفين والمفكرين من (أدنى) حقوقهم.
اضف تعليق