يكره العراقيون العمل في السياسة لأسباب قد تبرر لهم جانباً من هذا الجفاء والابتعاد، فكما هو معلوم لم يحصد الشعب العراقي من السياسة والسياسيين سوى المآسي، وعند تمحيص التاريخ السياسي لدولة العراق منذ النشوء وحتى يومنا هذا، سنلاحظ أن جميع الأنظمة السياسية (الملكية والجمهورية) لم تستطع أن تلبي طموحات العراقيين في العيش الآمن الكريم في دولة مستقرة، وهي في الحقيقة تطلعات شعب بسيط لا يريد من الحياة سوى كفاف العيش والسلام.
وهذا لم يتحقق كما يتضح ذلك للباحث في تاريخ الدولة العراقية منذ نشوئها في 1921، أما الأسباب التي تقف وراء هذه المعضلة المزمنة، فربما لا تغالي إذا قلنا، أن الأحزاب السياسية في العراق كان لها الدور الأول في درجة الأذى الذي ألحقته بالشعب والدولة، ومن بين هذه الأحزاب نقصد الشخصيات السياسية التي كانت تتمتع بسطوة وحضور وتأثير قوي في مسار الأنشطة والعلاقات السياسية المختلفة بشقيهما الداخلي والخارجي.
أما لماذا تسببت الأحزاب بذلك، فهو أمر قد لا يصعب كشفه على الباحث المتبحّر في طبيعة السياسة والأحزاب في العراق، فهي في الحقيقة أحزاب وإن كانت ذات هيكلية وادارية مفهومة، لكن المشكلة ستظهر في البرنامج السياسي لها، والفكر الذي تتعكز عليه وتتخفى وراءه، فهي إما أفكار متزمتة أو منحازة أو ذات منحى متعصب وسوى ذلك مما هو مؤسف كونه لا يصب في صالح الشعب ولا الدولة، ما حدا بأحد المراقبين أن يقول بأن هذه الأحزاب مصابة بعاهة سياسية مزمنة غير قابلة للشفاء.. وهذه العاهة مؤشَّرة يمكن حصرها بالبحث عن الامتيازات والمنافع المادية والمناصب بعيدا عن التفكير الاستراتيجي لبناء الدولة.
غياب الشفافية وضعف النزاهة
وفي حديثنا عن دور الأحزاب، فإننا في الحقيقة لا نبتغي التعميم بقدر ما نلاحظ ذلك الخواء الجماعي في العمل السياسي داخل البيئة السياسية في العراق، فهناك عاهة تعاني منها هذه الأحزاب، والعاهة كما هو معلوم حالة مرضية مستعصية، تشل الجسد والذهن فتؤثر على التفكير، وتصبح في معظم الأحيان، مشكلة تؤدي الى العجز في أداء الواجبات كما يجب، لكنها لا تنحصر في الإنسان وحده، لأنها قد تصيب كيانات غير بشرية أيضا، فردية أو جماعية، فتشل حركتها وتعرقل فاعليتها، وتمنعها من أداء الواجب المطلوب منها، كما يحدث مع الأحزاب التي نحن بصدد الحديث عنها، ومرة أخرى نؤكد أننا لا نؤمن بالأسلوب التعميمي، ولكن هذا ما يجري في الساحة كما تثبت الوقائع.
ولكن يبقى السؤال الأهم، هل تصحّ مثل هذه التساؤلات التي يطلقها معنيون بين حين وآخر، تُرى هل أحزابنا مصابة بعاهات تمنعها من أداء واجبها السياسي على النحو الأمثل؟، واذا كان جوابنا بالإيجاب، فما هي هذه العاهات، وما هي تأثيراتها على الوضع السياسي في العراق، وهل هناك أمل بمعالجتها، لكي ننجح جميعا في بناء دولة الحلم، دولة المواطن، دولة المؤسسات التي تحمي حقوق الجميع وتكفلها، مقابل أداء الواجبات المطلوبة، من يمكنه منحنا إجابة شافية وافية في هذا الإطار، وقبل ذلك ما طبيعة المشكلات التي تعاني منها أحزابنا.. وهل فعلا هي تسير بين ألغام الفساد، لدرجة أنه بين حين وآخر ينفجر لغم فساد عالي الصوت لدرجة أن الجميع يسمع به كما في الصفقات الفاسدة التي نطلع عليها تباعا في وسائل الإعلام؟.
ثمة مشكلات متتابعة تعاني منها الأحزاب منها أنها مصابة بعاهة التجاوز على الديمقراطية، وغياب الشفافية والنزاهة، وهي أيضا بحسب الشواهد مصابة بتضخيم شخصية القائد الأعلى للحزب ومدحه في مناسبة أو دونها، كذلك هي غاطسة في الصراعات المتبادلة ما يجعلها غير قادرة على بناء الدولة، لهذا فهي تعد أحزاب لا تحفل بالتطور أو التقدم، ومن ثم فهي عاجزة تماما عن نقل البلاد من مستنقع الجهل والتخلف والاضطراب، الى واحة النور والاستقرار، وهكذا فإن التأثيرات السلبية لمثل هذه العاهات، كبيرة ومؤثرة جدا على حياة الفرد العراقي، وتؤدي بقوة الى ضياع حقوقه المدنية والخدمية وغيرها، وهذا الواقع المزري تؤكده رداءة الخدمات والفوضى في المدن وسوء التعليم والصحة ومعظم أساسيات حياة المواطن البسيط.
الأمل في بناء دولة المؤسسات
إن هذه الأحزاب على الرغم من أنها تتوزع على نوعين، منها ما هو ضليع في السياسة لكنه يهتم بمصالحه أولا، ومنها ما هو غير فاهم لأصول اللعبة الديمقراطية أصلا، فيضيع أيضا في اللهاث وراء الامتيازات الآنية على حساب البعيدة المدى، فيبدو هذا النوع من الأحزاب عاجزا عن إنقاذ المواطن البسيط من وطأة الفقر وقسوته، وهو دليل قاطع على وجود الفساد السياسي واستشرائه بقوة، الأمر الذي يدل بدوره على فساد الأحزاب، ولأنها هي التي تدير العملية السياسية في العراق وما يتبعها من جوانب أخرى اقتصادية وتعليمية وصحية وسواها، فإن هذه الإدارة قاصرة عن تحقيق الأهداف المرجوة منها، والتي تتمثل ببناء دولة مدنية تحفظ حقوق المواطن من خلال القانون والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وما إلى ذلك، لهذا تبدو الأحزاب العراقية إقطاعية عائلية فئوية استبدادية بالنتيجة، ولعل من أهم أسباب فشل بناء الدولة، هو فشل العمل السياسي لأحزابها، كونها تفتقر للشعبية والحيوية الفكرية والمبدئية، فضلا عن تحليها بالقيم الأساسية كالنزاهة والإيثار ونكران الذات والعمل بصورة فعلية من أجل مصلحة المواطن وبناء الدولة المتطورة.
وكما هو واضح من المشهد السياسي، لا يمكن القول بصحة ما يبدر من الأحزاب، لاسيما أنها لا تريد أن تفهم بأن العمل بالسياسة كالسير في حقول الألغام، فأما تخرج منها بسلام إذا كنت واعيا وذكيا، وأما تقضي عليك، وهذا ما سيحدث مع الأحزاب التي لا يمكنها الإفلات من قبضة الفساد، لذا فإن المساوئ التي تنعكس على الوضع السياسي بسبب الأحزاب واضحة، لأنها تنعكس على العمل الحكومي بكل أنواعه، واذا كانت الأحزاب مريضة فإن هذا المرض حتما سينعكس على الحكومة، وبالتالي ليس هناك أداء حكومي ناجح إلا بوجود أحزاب ناجحة، وهذا يرتبط بتصحيح عمل هذه الأحزاب وتبيان أهدافها بشكل واضح، مع أهمية الابتعاد عن الانشغال بالمصالح الذاتية الآنية والعمل الدائم من أجل مصلحة الدولة والشعب.
لذلك في حالة قدرة هذه الأحزاب على التصحيح، فإنها ستخرج من حقول ألغام الفساد سالمة، ومحبوبة ومرحَّب بها من الجماهير، وبذلك يبقى الأمل في بناء دولة المؤسسات على الدوام، لكنه سيظل مرهونا بالقضاء على المعضلات التي تعاني الأحزاب، لذا مطلوب من القيادات الحزبية، أن تعي المخاطر التي ذُكرت سابقا، ولابد أن تندمج بالشعب وشرائحه كافة، لكي تلقى قبولا ودعما وتصحيحا متواصلا للأخطاء، وهو الأسلوب الصحيح لمعالجة العاهات التي تبدو كأنها غير قابلة للزوال مع أن الأحزاب ذات التاريخ الطويل، يمكنها الاستفادة من خبرتها وتجاربها الكثيرة، وتتحاشى السقوط في ألغام الفساد، وتتنبه الى مهامها الأساسية التي يمكن تلخيصها، بأنها أهداف تنحصر في خدمة الشعب من جهة، وفي بناء الدولة المدنية المستقرة من جهة ثانية.
اضف تعليق