مع ظهور العولمة المعاصرة وما رافقها من مستجدات وتغييرات طرأت على العالم أجمع، بدأت شبكة الإنترنيت بنشاطها المتميز عبر الأثير، وصارت وسيطا ناقلا للمعلومة بأسرع ما يمكن، حيث فاقت سرعتها جميع وسائل نقل المعلومات السابقة بأضعاف المرات، حتى أمكنها أن تجعل من العالم كله يعيش في قرية صغيرة، يمكن لسكانها أن يطلعوا على أوضاع بعضهم البعض بسهولة ويسر.
هذه الميزة عززت من الديمقراطية باعتبارها تنحو الى الشفافية والوضوح، وتسمح بحرية الرأي وتحميه وتحافظ عليه، لذلك صارت الميزات التي رافقت الإنترنيت لصيقة أيضا بالعصر الديمقراطي وعززت من وجوده وتأثيره، بل كان ولا يزال (المتشدقون) بالديمقراطية ينظرون الى سرعة نقل المعلومات عبر الأثير من أهم ما تفضلت به العولمة على البشرية، ولكن ثمة مشكلات رافقت هذا المنجز المهم في رأي أنصار الديمقراطية.
بعد فترة من ظهور العولمة الحديثة أو المعاصرة، وبعد أن تبعها الإنترنيت، ظهرت وسائل جديدة لنقل المعلومات كافة، هذه المرة فوجئ الإنسان بمواقع التواصل الاجتماعي، فصار كل شيء يحدث في هذا العالم،أمام الملأ، حتى بات إخفاء الخبر أو الحدث او الفضيحة أو التجاوز أمرا مستحيلا، وبهذا يمكن أن نقول بظهور هذه المواقع انتهى عصر الطغيان.. ولم يعد الطاغية أي طاغية ومعاونوه أن يبطشوا بالشعب من دون أن تنشر فضائحهم أما عيون العالم أجمع.. وهذا سرّع في انتهاء عصر الطغيان الى الأبد.
بطبيعة الحال هنالك ناشطون يأخذون على عاتقهم مهمة الاستفادة من مواقع التواصل لتحقيق أهدافهم وخاصة في محاربة الأنظمة الفردية، كما لاحظنا ذلك في مصر وإسقاط نظام حسني مبارك، وما حصل مع القذافي وقبله في تونس، فقد تم استثمار الفيس البوك وجميع مواقع التواصل الاجتماعي لصالح هذه الانتفاضات، وقد أثبت ذلك التأثير الفعال والكبير لهذه المواقع وقدرتها على تقديم أفضل الخدمات من خلال تنسيق الحركات والتوقيتات والأساليب لإشعال فتيل الاحتجاجات في الدول التي تم ذكرها.
حتى في العراق تم الاستفادة من هذه المواقع لتنسيق المظاهرات والاحتجاجات التي بدأت من 2011 صعودا وكان لها التأثير الكبير تنسيقا وتحريكا وتأجيجا، وبهذا يمكن القول أن هذه المواقع أسهمت بطريقة أو أخرى بنشر الرأي الحر، أي أنها وقفت الى جانب الديمقراطية وعززت من تأثيرها وحضورها كمنهج سياسي فاعل في الحياة السياسية، لاسيما في البلدان التي لا تزال قاصرة في فهمها وتطبيقها للديمقراطية كما هو الحال فيما يخص الدول العربية وعدد من الدول الإسلامية، حيث لا تؤمن بعض الأنظمة السياسية بالديمقراطية كمنهج حياة، يمكن من خلاله بناء نظام سياسي أفضل ودولة أكثر قدرة على محاكاة العصر.
الشبكات الاجتماعية وصناعة الرأي
من القضايا المهمة التي رافقت ظهور مواقع التواصل، قضية صناعة الرأي العام، وهذا مظهر واضح من مظاهر الديمقراطية، بمعنى أمكن لهذه المواقع أن تؤثر كثيرا وبصورة فعلية في توجيه الرأي العام عندما تكون محمية من قبل الأنظمة الديمقراطية، أما الأنظمة الدكتاتورية فإن هذه المواقع لا حضور لها ولا تأثير ولا قدرة على توجيه الرأي أو بلورة رؤية واضحة او موقف محدد تجاه النظام السياسي.
هنالك مشكلة أخرى رافقت ظهور مواقع التواصل وتأثيرها على الديمقراطية، على الرغم من أن هذه المواقع محمية من الأنظمة الديمقراطية، أو متاح للمشتركين التعبير عن آرائهم ومواقفهم فيها، إلا أن الاستخدام الخاطئ لها أساء أحيانا للديمقراطية نفسها، من ذلك على سبيل المثال عندما يتم استخدام هذه المواقع للتسقيط او القذف والتشهير وما شابه، أو إثارة الضغائن والأحقاد أو بث التطرف وإشاعة التعصب، وصب الزيت على النار وتأجيج الخلافات بين مكونات الشعب الواحد مثلا.
لنتصور كيف يكون دور مواقع التواصل الاجتماعية بالنسبة للديمقراطية، عندما يُساء استخدامها بطريقة أو أخرى، حيث يستفيد الإرهاب من الديمقراطية نفسها، كذلك لا يمكن أن ننسى إمكانية نشر الفكر التكفيري وأهدافه وحتى إيصاله الى أبعد نقطة من العالم، وإمكانية استفادة تنظيمات التطرف من هذه المواقع وقدرتها على تنسيق فعالياتها ونشاطاتها عبر الفيس بوك أو سواه من المواقع الأخرى، كل هذه الأنشطة وسواها تعطي نتائج عكسية لما تقدمه هذه المواقع من فوائد في ظل الديمقراطية.
يُضاف الى ذلك عندما لا يتم استخدام هذه المواقع كما يجب، أو ضمن الضوابط والأعراف والقوانين السارية، هذا يعني أن النتائج سوف تكون معاكسة تماما، ما يلحق الضرر بالأنظمة الديمقراطية أيضا، لهذا ينبغي أن يتم الالتزام بضوابط استخدام هذه المواقع، ليس من أجل محاصرة الرأي أو تحديد حرية إيصال المعلومة، أو تحديد نشاط الإعلام بصورة عامة، وإنما المقصود أن تكون هذه المواقع ذات هدف واضح هو الاستفادة من الديمقراطية لتصحيح الوضع العالمي المرتبك، خاصة ما يتعلق بالتطرف، وانتشار هذه الظاهرة على نحو غير مسبوق بين الكثير من الشعوب والتجمعات السكانية المتنوعة، لذا من الأهمية بمكان أن تتم الاستفادة الأقصى من هذه المواقع لصالح الديمقراطية وليس بالضد منها.
مقترحات لمعالجة الظواهر السلبية
من الأمور التي لا نختلف عليها، أن مواقع التواصل ظاهرة إلكترونية تواصلية صحية، لا يمكن وضعها في مجال مضاد للإنسان، ولحركة العالم الى أمام، على الرغم من أن الأشياء المفيدة غالبا ما يرافقها أو ينتج عنها المضاد أو (السيئ) أيضا، لا شيء يمنحك الجمال من دون ألم، ولا شيء يعطيك الفائدة بدون ضرر، كل الأشياء المفيدة يقابلها شيء يكون على شكل جهد او طاقة او فكر مضاد وما شابه.
مواقع التواصل تقدم لنا مزايا مهمة سبق ذكرها، ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون سيف ذي حدين، يمكنها أن تحمينا أو تقدم لنا الحماية من الخطر، ويمكن أن تكون هي السبب وراء الخطر الذي يحدق بنا، كل هذا بدعم من الديمقراطية، إنها مفارقة غريبة حقا، فأنت مطالب كنظام سياسي ديمقراطي أن تطلق الحريات الإعلامية وما شابه، من ضمنها مواقع التواصل، وفي الوقت نفسه يمكن أن تكون هذه المواقع سببا في نشر الاضطرابات والأحقاد والتفجيرات ونشر الفكر المتطرف.
مع ذلك لا يمكن الاستغناء عنها كونها جزءا لا يتجزأ من الديمقراطية الحامية للحريات كافة، لهذا علينا أن نتفهم هذا التناقض الحاد في الأهداف التي تقدمها مواقع التواصل، ولكن في نفس الوقت لابد من الالتزام بالضوابط والأخلاقيات والقيم التي تحكم تنظيم هذه المواقع وأهدافها ونشاطاتها، إذ من غير الممكن أن تطلق لها الحريات في كل شيء بحجة الديمقراطية، فبهذه الحالة ربما تكون النتائج عكسية تماما، خاصة عندما يتم استخدام هذه المواقع لنشر التطرف والإرهاب وما شابه.
من هنا لابد أن تكون هناك موازنة بين المضاد والمؤيد، المفيد والمضر، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من هلال التمسك بضوابط وتشريعات وقوانين تنظم عمل هذه المواقع وسواها، حتى لا يكون هناك منع يطولها، ولا تكون هناك إمكانية لاستخدمها بشكل مضاد للديمقراطية نفسها.
اضف تعليق