كيف يمكننا بناء دولة مدنية؟، ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال الكبير، حتى أولئك الذين يدّعون بأنهم مختصون في هذا المجال، قد لا يكون بمقدورهم الإجابة الشافية الكافية عن مثل هذه الأسئلة المعقدة، لاسيما اذا تعلق الأمر بالعراق، ذلك أن الظروف والأوضاع التي يمر بها هذا البلد منذ عقود وحتى المرحلة الراهنة، تجعل من المستحيل إخضاعه الى القوانين والقواعد الثابتة التي تساعد المختص على الإجابة عن مثل هذه التساؤلات الملحّة والكبيرة في الوقت نفسه.
ولكن هذا لا يعني أن بناء دولة عراقية مدنية أمر يدخل في عداد المستحيل، فالعراق دولة لا تختلف عن غيرها من الدول، تمتلك أركان الدولة ومواردها أيضا، فالعراق دولة معترف بها دوليا وهي عضو في الأمم المتحدة ومنظمات عالمية كبيرة ومؤثرة، كذلك يمتلك العراق أرضا وشعبا وحكومة وسيادة وموارد لا يُستهان بها، ولكن ما ينقص هذه الدولة العريقة، الإدارة العلمية المنضبطة، ولعل السبب الأكثر وضوحا في هذا الجانب، يكمن في فشل التخطيط أو الجهات المعنية في تحويل القرارات والأفكار المتطورة الى حيز التنفيذ في مضمار بناء الدولة العراقية المدنية.
وحتما أننا لا نخطئ عندما نؤكد أن العجز يكمن في فشل التخطيط، فعلى مدى ما يقرب من قرن مضى، أي منذ أن تأسست الدولة العراقية الحديثة في 1921، لم تتوفر خريطة عمل حقيقية لبناء هذه الدولة، ولسنا بحاجة الى الخوض في الاسباب، فهي تكاد تكون معروفة لكل من يحاول معرفتها، وأهم المعوقات التي وقفت بوجه تحقيق هذا الهدف، عدم توافر الارادة السياسية المخلصة، لنقل العراق من مرحلة البناء العشوائي الى المنظم، والمثابرة في تحقيق هذا الانتقال بإرادة سياسية قوية وذات خبرات كبيرة تؤهلها للقيام بهذا الدور الذي عجزت عن القيام به جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم العراقيين وإدارة شؤونهم.
والملاحظة المهمة في هذا الإطار أن جميع النظم السياسية الملكية، والجمهورية، التي حكمت العراق، انشغلت على نحو كبير بمصالحها بالإضافة الى قِصَر عمر بعضها، بسبب الصراعات على عرش السلطة، كما حدث مع الحكومات الجمهورية التي تعاقبت على حكم العراق، في السنوات الممتدة بين عام 1958 -2968، أما عقود الحكومات الجمهورية، فقد تم العمل على تكريس كل وسائل حماية السلطة، والانشغال بهذا الهدف، عبر اختلاق الازمات الداخلية والخارجية وغيرها، الامر الذي ألغى جميع الفرص المتوافرة لبناء دولة مدنية قادرة على حماية مواطنيها، وحريصة على الانتقال من منطقة التأخر الى مناطق أكثر تطورا وتقدما.
ماذا حدث بعد نيسان 2003
عندما تم الإطاحة بالنظام السابق في نيسان 2003، كانت جميع التوقعات في الداخل والخارج، تجد أن مرحلة الاستبداد والتخلف قد انطوت الى الأبد، وقد توقّع العراقيون أنهم قد انتقلوا الى مرحلة بناء جديدة متعددة الجوانب، وكما هو مأمول سوف سيكون بناءً قادرا على مغادر الأسلوب العشوائي في إدارة الدولة، وهو بناء يستند على أسس صحيحة، يشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة وما الى ذلك من مجالات أخرى، ولكن ما جرى على الأرض لا علاقة له بالتوقعات، فقد بقي العراق في حالة من الارتباك، وعجزت جميع الحكومات على انتشاله من براثن الفساد.
فهل انتقل العراقيون فعلا من مراحل الصراع على السلطة – كما حدث طيلة قرن تقريبا- الى مرحلة بناء دولتهم المستقرة؟، في الإجابة عن هذه السؤال المحوري، نستطيع أن نقول بأن تفاصيل العهود السياسية لا تزال تلقي بظلاله الثقيلة على المرحلة الجديدة، وأن المعوقات التي كانت تقف في طريق بناء الدولة العراقية، صارت تتجدد باشكال وسبل جديدة، وأن فلسفة الفوضى الخلاقة، هي مثال صارخ على العشوائية الجديدة، التي أخذت تحد من فرص بناء دولة العراق المدنية الجديدة.
هناك من المراقبين المهتمين يرون أن التخطيط لدولة العراق ما بعد نيسان 2003 لم يكن حاضرا، بل ثمة غياب للتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، في المجالات السياسية، والاقتصادية وسواها، فضلا عن الانشغال شبه الكلي، بإدارة دفة الصراع، بين عناصر العملية السياسية، وفقا لتحقيق المصالح الفئوية، او الجهوية، او الحزبية، مع غياب شبه تام للرؤية الحقيقية لبناء دولة العراق، التي تنتمي لروح العصر، ولعل المفارقة الموجعة في هذا الصدد، أن فشل السياسيين والاقتصاديين وغيرهم في بناء الدولة، يأتي في ظل الاجواء الديمقراطية وغياب أداة القمع والفردية، أما الحسابات الاقليمية والدولية، فعلى الرغم من تأثيرها على عملية بناء الدولة العراقية المدنية ومحاولات تعويقها، إلا أن هذا الجانب لايمكن أن يكون سببا كافيا لعدم وجود تخطيط جاد ومسبق لبناء الدولة المدنية.
مشكلات تعيق بناء الدولة
ولا شك أن مثل هذه الأوضاع الخاطئة تثير تساؤلات كبيرة، بخصوص التلكؤ في بناء الدولة، وما هي الجهات التي تعيق هذا البناء، ثم ما هي الأسباب التي تقف وراء التخطيط المسبق لهذا الهدف الأساس، إن هذا الأمر يعني تسلل حالات الضعف في الإرادة السياسية للنخب المعنية، وجهلها بسبل التخطيط الاستراتيجي، وانشغالها بالمنافع قصيرة المدى، حيث يشكل ذلك سببا مباشرا في انتفاء التخطيط اللازم لبناء الدولة العراقية، مع أن الجميع يرى بأن مرحلة ما بعد 2003 تُعد منتجة لأنسب الفرص في هذا المجال، بمعنى في حالة الاستفادة من الظروف والمستجدات بشكل جيد، لكانت الأمر تسير في مسار آخر يخدم بناء الهدف المطلوب حتما.
ولكن هنالك مشكلات كثيرة تشكل معوقات تمنع العراقيين من بناء دولتهم المدنية، هذه المشكلات بعضها من صنع إقليمي، وآخر من صنع دولي، وهناك في الداخل أذرع تسعى لمؤازرة بعض الأجندات الإقليمية والدولية على حساب بناء الدولة العراقية المتطورة، لذلك فإن واقع الحراك السياسي والاقتصادي وسواهما، يؤكد أن هناك من لا يسمح للدولة العراقية بالنهوض، ولعل يؤيد الرأي الذي يذهب الى فقدان المخطط الاستراتيجي في ميادين السياسة، والصناعة، والزراعة، والتخطيط وسوى ذلك من مفاصل الدولة، الأمر الذي يجعل من تحقيق بناء الدولة المدنية المكتفية ذاتيا والمتطورة اقتصاديا أمرا بالغ الصعوبة.
وثمة مشكلة أخرى تدور في الداخل بين المكونات السياسية نفسها، حيث الصراعات المستمرة بين العاملين والناشطين في السياسة من افراد وشخصيات وأحزاب، جلّها يلهث وراء المناصب والمكاسب والامتيازات، ولعل هذه المشكلة هي الأكثر حضورا في هذا الخصوص، ما يؤدي بالنتيجة الى تحجيم دور الكفاءات وإقصائها وتحييدها، بل وتهجيرها اذا اقتضى الامر وفق سبل وطرق غير قانونية ولا مشرعة، وكلنا نتفق على أن خلو البلد من الكفاءات، لهذا السبب أو ذاك، وفي هذا المجال أو ذاك، يعني استمرارا للعشوائية، وتواصلا مع مراحل تعويق البناء الامثل للدولة المدنية وهذا الأمر يحدث بالفعل ولا يمكن إنكاره في أي حال من الأحوال ما يعني أننا عاجزون حتى اللحظة عن تحقيق هدفنا في مجال إنشاء الدولة القادرة على الاصطفاف الى جانب الدول المدنية القوية المستقرة، على الرغم من أن مقومات بناء هذه الدولة متوافرة لكن التخطيط لها لا يزال غائبا بغياب الإرادة السياسية.
اضف تعليق