يظن البعض وربما نسبة عالية ممن ينتمي الى الأنشطة الثقافية ويعمل بها، أن المثقف هو الشاعر وكاتب القصة والرواية، وأن الأنشطة الثقافية هي تلك الأمسيات والاصبوحات والمهرجانات والندوات الأدبية التي يتم فيها قراءة الشعر او القصة أو الأجناس الأدبية الاخرى، في تصورهم هذا هو المثقف، وما عداه لا ينتمي الى الصفة الثقافية وجوهر الثقافة.
بيد أن هذا التصور أو هذا الادعاء مجافي للحقيقة، ويمكن أن نستدل على ذلك من جملة التعريفات التي تؤكد بأن الثقافة هي مجموعة القيم المؤثرة على نحو جيد في السلوك المجتمعي، وقد تأخذ الثقافة مسارا معاكسا عندما تكون القيم التي يستند إليها التفكير والسلوك المجتمعي رديئة أو تخلو من النظرة والجوهر الانساني.
وتبعا لهذا التعريف للثقافة، فإن كل انسان يتعامل مع محيطه وفق رؤية جيدة، قائمة على منظومة قيم انسانية راقية، فإنه يعد من المثقفين، وليس الأدباء حصرا هم المثقفون وحدهم، فربما نجد انسانا لا علاقة له بالشعر والاجناس الأدبية الأخرى، لكنه يحمل قيما راقية وفي ضوئها يضبط أفكاره وسلوكه ويكون نموذجا راقيا للمجتمع كله، مثل هذا الانسان هو نموذج راقي للمثقف المؤثر والقادر على التغيير.
إذاً فشخصية المثقف يمكن أن تبنى بالقيم وليس بالانتماء الى طبقة محددة من الادباء، إنها شخصية تُبنى وتتشكل رويدا، وفقا لجهود المثقف نفسه بعد دخوله معترك الوعي، مضافا الى ذلك الظروف المحيطة به كالعائلة، المدرسة، الشارع، دائرة العمل، ويدخل في هذا الجانب ايضا عامل الوراثة وما يضفيه على هذه الشخصية باتجاهين متعاكسين، الجيد والرديء، ولكن على العموم تبقى شخصية المثقف محكومة بقدرته على التأثير والتغيير في المجتمع، وليس وفقا لانتمائه الى الشعراء او كتاب الأدب، فالمثقف ينبثق من طبيعة السلوك تبعا للقيم التي يؤمن بها ويتحرك في ضوءها خلال علاقاته مع الآخرين ونشاطاته المختلفة.
لذا يعد المثقف العاجز عن التغيير، أكذوبة لا تصمد أمام الواقع، لأن أهم شرط من شروط الانتماء للثقافة الصحيحة الفاعلة، هو أن يكون المثقف قادرا على تغيير السلوك المجتمعي نحو الأفضل، وفي حالة العجز عن تحقيق هذا الهدف، لا يمكن أن تتحقق هوية المثقف من خلال الإدّعاء وحده وانما يتم هذا الانتماء بالفعل والانجاز الثقافي المؤثر في المجتمع.
بين الفاعلية والكسل
ثمة تساؤل عن الفارق بين المثقف الفاعل والمثقف الكسول، فالأول لا شك أنه مؤثر وقادر على التأثير بصورة لا تقبل الشك، أما الثاني ونعني به المثقف الكسول فهو لا يمتلك ارادة التغيير، ومثل هؤلاء سرعان ما يبحون بيادق يتحكم بها السياسي
أما المثقف الحقيقي فهو شعلة من نشاط ولا يعرف السكون، أو الانتظار ريثما يظهر له ما يقدمه الآخر لكي يستفزه ويدفعه للمشاركة او في هذا المجال الثقافي او ذاك، أي أنه يتمتع بصفة الاقدام والسبق، لهذا نلاحظ حضورا مميزا لمثل هؤلاء المثقفين، في المحافل المتعددة، بالاضافة الى الحضور الاعلامي المتميز، كل هذا وغيره يستند الى القيم الفاعلة التي يؤمن بها المثقف ويطبقها في سلوكه اليومي.
لذلك مثل هؤلاء المثقفين يصبحون بؤرة اجتذاب لوسائل الاعلام بمختلف انواعها المعروفة، والسبب أنه يتمتع بعنصر التجديد ومفاجأة الآخرين بالقيم الجديدة التي يؤمن بها ويعمل في ضوئها، لذلك غالبا ما يُحاط مثل هؤلاء المثقفين، بهالة من الضوء والاهتمام، سواء من الوسط الذي ينتمون له، او من لدن عموم المهتمين والمتابعين، كذلك مثل هؤلاء يشكلون مطلبا مهما للاحزاب والمنظمات وحتى الحكومة نفسها، والسبب أن هذه الجهات تحاول استثمار المثقف الناجح والفاعل من اجل تسويق أهدافها وترويج أفكارها.
ولكن يوجد من جانب آخر مثقفون مشلولون ولا دور لهم في تطوير المجتمع بسبب كسلهم، فثمة مثقفون كسالى، ينتظرون الآخر يتحرك ويبدع لكي يستفزهم، ويزجهم في المضمار الثقافي الحي، وحين يتحرك هؤلاء وينشطون، فإن الخمول يتربص بهم وينقضّ عليهم بمجرد غياب المحفِّز، وهي إشكالية يعاني منها المثقفون التابعون من أصحاب الإرادات الضعيفة، مثل هؤلاء يفتقرون للمبادئ ولا يتمتعون بصفة الأصالة مطلقا، على أننا لا ننكر بأن الاصالة تنمو بالتجربة، لكنها ايضا، ينبغي أن تُزرع مبكرا في الذات المثقفة، ويتم ذلك من خلال جهود ذاتية وخارجية مشتركة.
وهكذا يبقى المثقف القادر على التغيير علامة مميزة في عالم الثقافة، فهو شخصية مرموقة يحترمها الجميع، ويؤمنون بها، ويستمعون إليها باحترام، لسبب بسيط أن المثقف المؤثر هو مثقف المبادئ والقيم التي يؤمن بها ولا يمكن أن يتنازل عنها في أي حال من الأحوال، وعلى العموم ينبغي أن يكون المثقف حيويا فاعلا ومؤثرا ولدية القدرة على التأثير في المحيط المجتمعي او العملي او حتى الثقافي الذي يتحرك وينشط فيه.
مقومات المثقف الفاعل
للمثقف القادر على تغيير المجتمع نحو الأفضل مقومات ومواصفات ينبغي أن يتحلى بها، وفي حالة غيابها، لا يمكن أن يكون مثقفا فاعلا وقادرا على التغيير، من أهم هذه المقومات إيمانه بالقيم المجتمعية ذات الطابع الانساني، على أن تستثمر هذه القيم في الجانب العملي، فالمطلوب من المثقف ليس التبجح الكلامي بالقيم فحسب إنما ينبغي أن يكون هناك تطبيق فعلي لها.
من الواضح ان المثقف الفاعل والمؤثر والقادر على التغيير المجتمعي ينتمي الى المثقفين النادرين والمتميزين بأفعالهم وأفكارهم ومدى تأثيرهم في الوسط المجتمعي او العملي او الثقافي الذي ينتمون إليه، ولعل المجتمعات المنتجة لا يمكنها أن تكون كذلك ما لم تتوافر لها شروط الثقافة المؤثرة والقائدة للمجالات الاخرى والتأثير بها.
من هنا قلما يحصل المجتمع الخامل، على مثقف قادر على أن يغير المجتمع بسبب حالة الخمول التي تهيمن عليه، لهذا يسود مثل هذه المجتمعات، مثقفون فارغون، متبجحون أو مدّعون، لا يعنيهم سوى البحث عن المنفعة الفردية على حساب الابتكار والابداع المتميز القادر على انتشال المجتمع من حالة الركود، ولكي تتوافر للمجتمع ثقافة ومثقفون قادرون على التغيير، لابد أن يتم اتخاذ خطوات فاعلة في هذا المجال منها:
- نشر القيم الصحيحة بين أفراد المجتمع كافة.
- ينبغي استثمار المثقف الحيوي في مهمة التغيير على أفضل وجه.
- معاضدة المثقفين القادرين على التغيير والوقوف الى جانبهم ماديا ومعنويا.
- منع السياسة وضغوطها من التأثير على فاعلة المثقف المتميز.
- تكون طبقة مثقفة موحّدة يمكنها التصدي لمهمة التغيير رغم العقبات الكثيرة والكبيرة التي تواجهها.
- العمل على تشجيع المثقفين كي لا يترددوا في المضي قُدما نحو أهداف التغيير الجيد.
- إشراك الجهد الجماعي الثقافي وعدم الركون الى الفعل الثقافي الفردي وحده.
- مشاركة المنظمات الثقافية بأنواعها في تحديث القيم المجتمعية ونشرها على نحو واسع ومتواصل.
- توفير الدعم اللازم للمثقفين القادرين على التغيير بعيدا عن التبعية او فرض الأفكار السياسية والترويج لها.
- رفض استغلال المثقف ماديا، ومحاربته في مصدر رزقه، كما تلجأ الى ذلك الأنظمة السياسية المستبدة.
اضف تعليق