الجمال نعمة أسبغها الله على الإنسان والطبيعة، وعلى موجودات الكون كافة، وهناك جماليات تزهو بها الأرض لا تعد ولا تحصى، ولا ينحصر الجمال بالشكل، ولا بالجوهر، بل ينبغي أن يكون هناك تزاوج بين الاثنين (الشكل والجوهر)، حتى لا يأخذ أحدهما من حصة الآخر، وفي كل الأحول الاهتمام بالجمال، هو طريقة حياة، تنبع من منظومة سلوك، تنتجها ثقافة تنتمي الى الجمال، فالإنسان الذي يميل الى الجمال، لا شك أن الموجهات البيئية والسلوك والفكري الذي ينتمي إليه ويترعرع فيه له تدخل كبير بإنتاج مثل هذه الميول.
أما إذا حدث العكس، أي إذا أهمل الإنسان الجمال، فهذا الأمر ينتج أيضا عن المحيط والبيئة البشرية، وحتما تقف وراء هذا الإهمال ثقافة مشوهة وفكر ناقص وبيئة متعبة، وإلا كيف يمكن لإنسان مكتمل يهمل الجمال، إن التخلف والابتعاد عن القيم السليمة، والعيش على هامش الحياة، كلها تدفع نحو إهمال الجمال.
وقد يكون هذا الإهمال طبيعة فردية، وربما تكون جمعية، وعندما يتصرف المجموع بطريقة تنمّ عن إهمال الجمال، فهذه مشكلة كبرى يعاني منها الناس، أما إذا كانت فردية بنسبة قليلة، وما تبقى من المجتمع يحترم الجماليات بأنواعها، فلا بأس ولا خوف من ذلك، هل توجد مجتمعات تعاني من ثقافة إهمال الجمال؟ الجواب نعم هنالك الكثير من الأفراد والمجتمعات التي تنظر الى الجماليات على أنها شيء كمالي لا يضيف شيئا للحياة.
لكن الأمر ليس كذلك مطلقا، لأن إهمال الجمال، يتسبب بفعل ثقافة وفكر ومنظومة سلوك قاصر، فليس الجمال بأنواعه، ترف، أو شيء كمالي لا يشكل إضافة مهمة للحياة، بل على العكس الجمال أحد أهم الدعامات التي تستند إليها الحياة المكتملة، لدرجة يمكن القول أن الحياة الخالية من الجمال ليست حياة مكتملة.
ثقافة الشعب مشوهة
هذه التوطئة تقودنا الى (ساحة الفردوس) التي تقع في قلب بغداد، هذه الساحة كما هو معروف تشكل أحد مدخليّ الدخول الى والخروج من شارع السعدون، وهو الشارع الرئيس والأهم في العاصمة، وساحة الفردوس بوابة دخوله من الجهة الشرقية له، وهي ساحة ترمز الى حرية الإنسان العراقي، لذلك كانت معظم المظاهرات تنطلق من هذه الساحة بعد أن يتقاطر عليها المتظاهرون من أنحاء بغداد، وهذا يعني أنها ذات مكانة مهمة لدى الشعب العراقي بحسب موقعها وأهميتها الرمزية.
هذه الساحة مهملة، وتعاني من النسيان، إضافة الى عدم اهتمام الجهات البلدية المعنية بها، والمشكلة أنها تقع بمحاذاة (فندق عشتار شيراتون/ خمسة نجوم)، وفندق (فلسطين ميرديان)، وهذان الفندقان أهم فنادق بغداد والعراق كله، من حيث التصميم وعدد الطوابق والعلو الشاهق، لذا في الغالب تكون وجهة السياح الأجانب نحو هذين الفندقين، فيصطدم نظر السائح بساحة الفردوس المهدّمة والمهملة.
نعم هي باتت ساحة مهملة مهدمة، وتحولت من ساحة ذات رمزية عالية، وذات جمالية متميزة، مليئة بالحدائق الخضراء والزهور والورود والمساحات الخضراء، الى منطقة لتراكم النفايات والازبال، وما كان أي إنسان يجرؤ على تحويلها الى مكب نفايات، لو لا الإهمال الذي تعانيه من الدوائر والجهات المعنية، وبالنتيجة عندما نبحث عن الأسباب التي تقف وراء هذا الإهمال سوف نصل الى النتائج التالية.
عندما تكون ثقافة الشعب مشوهة، قاصرة، فإن تهميش الجمال، يكون متوقعا، وممكنا، فلا يعبأ أحد بشيء اسمه (الجمال)، وإلا ما هو التفسير الذي يقف وراء تحويل هذه الساحة ذات الرمزية الكبيرة، الى مكان للنفايات، والى ارض جرداء ممتلئة بالنباتات الشوكية اليابسة، مع العلم كما ذكرنا تقع في قلب بغداد وبالقرب من اهم معلمين في بغداد للسياح، ونعني بهما الفندقين الذين مر ذكرهما سابقا.
ألا يرى المسؤولون عند جولاتهم الصباحية والمسائية ما آلت إليه هذه الساحة، هل هي منطقة أثرية لا يجوز أن تمتد لها يد التنظيف والطلاء والترميم والثيل الأخضر والمياه، كي تصبح ساحة خضراء، بالتأكيد يمر بهذا المكان مسؤولون كبار(وزراء، وكلاء وزراء، مدراء عامون)، ولكن كل هؤلاء لا يعنيهم الجمال، ولكن لماذا لا يعنيهم الجمال، ما هو السبب.
حاضنة لا تعبأ بالقيم
إنهم لا شك ينتمون الى حاضنة هي نفسها لا تعرف قيمة الجمال والذوق في التصميم المعماري او سواه، كما ان هؤلاء المسؤولون الذين يمرون بساحة الفردوس وينظرون إليها من دون أن يفكر أحدهم بإعادة الحياة لهذه الساحة، هؤلاء يكبت على رؤيتهم وأبصارهم الإهمال، والاهتمام بمصالحهم الشخصية فقط، فمن غير المعقول، أن يتم نسيان هذه الساحة التي كانت لسنوات عديدة مركز لانطلاق أهم التجمعات والأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية، لمعظم المثقفين والمفكرين، فما الذي حدث لكي يتم إهمالها بهذه الطريقة القاسية؟.
إن من يلقي نظرة متأنية متفحصة على هذه الساحة الحديقة، فإنه سوف يُصاب بصدمة، أولا لأن درجة اهمالها غريبة وغير متوقعة، ثانيا لأنها تقع في قلب بغداد والكل يمر بها وينظر إليها ويرى عيوبها، وخاصة المسؤولون الذين لا يكلفون أنفسهم بإشارة او كلمة تنبيه لضرورة إحياء الحياة والجمال في هذه الساحة ذات الطابع الرمزي للعراقيين.
في الخلاصة، لابد أن هذا الإهمال والإقصاء وعدم الاهتمام بساحة من هذا النوع، سببه الثقافة التي ينتمي لها المسؤولون، هذه الثقافة التي تضع الجمال والذوق، في آخر اهتماماتها، هذا اذا كانت تهتم اصلا بمثل هذه القيم، والسبب هي الحاضنة، أما الحلول فهي تعود الى تحديث ثقافة المجتمع برمتها، فلا يصح مطلقا أن يتم إهمال ساحة بأهمية ساحة الفردوس، تقع في قلب بغداد، وقد يكون الأمر أهون وأقل ضررا لو كانت الساحة غير معروفة، ومكانها في الأطراف وغير مهم ولا معروف، مع ايماننا أن جميع الساحات العامة والحدائق ينبغي أن تلقى الاهتمام المطلوب، بغض النظر عن موقعها.
ولكن هناك ثقافة مانعة رادعة للجمال، شكلا وجوهرا، وينبغي التنبّه الى الخطر الكبير الذي تمثله هذه أي ثقافة من هذا النوع، كونها تهمل الجميل وتنشر القبيح، وترفض وتحارب القيم النبيلة، وتشيع وتعضّد قيم الخراب، بالنتيجة، هذه دعوة أولا لإعادة الحياة والرونق لساحة الفردوس ومن دون تأخير وهذه هي مسؤوليات الجهات البلدية ولكن لا بأس بإصدار اوامر عليا فورية لها من مسؤول كبير في الحكومة وزير او أعلى لكي تتم معالجة هذه (الفضيحة) بأسرع وقت ممكن.
الأمر الثاني ينبغي أن تبدأ الجهات والدوائر والمنظمات المعنية حملات كبيرة وكثيرة لتغيير ذائقة الناس، وتوضيح ماهية الجمال، وما أهمية الشكل والجوهر عندما ينتميان الى الجمال، اننا بحاجة الى نشر ثقافة الجمال، حتى لو اضطررنا أن نبدأ في ذلك من الصفر.
اضف تعليق