كل شيء في العراق يجري بانتظام وبشكل طبيعي، من حركة السير والناس في الشوارع والاسواق، وجداول الامتحانات في المدارس والدوائر الحكومية، ثم المصارف التي تضخ النقد للمتقاعدين تارةً واصحاب الحسابات المصرفية تارة اخرى، كما الأمن مستتب في معظم أنحاء البلاد، بل وإن الانتصارات على "داعش" متواصلة على يد أبطال القوات المسلحة، بمختلف صنوفها وتشكيلاتها، والأهم من كل ذلك لدى الانسان العراقي؛ الكهرباء التي تشهد تحسناً يوماً بعد يوم رغم تقدمنا نحو فصل الصيف، وعلى الصعيد الدولي، فان صندوق النقد الدولي يستعد لإقراض العراق 13مليار دولار، وهو رقم ضخم نُحسد عليه في العالم.
رغم كل هذا وغيره من الامور الجارية بانسيابية، يفقد الشعب العراقي أهم أركان دولته، وهي؛ السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. نعم؛ ما يزال رئيس البرلمان السيد سليم الجبوري يحتفظ بمنصبه، كما يحتفظ السيد حيدر العبادي بمنصبه ايضاً، بيد أنهما يحتفظان بواجهة لمؤسستين دستوريتين تواجهان استحقاق الإصلاح والتغيير، وقد جرى شيئاً من ذلك ضمن مخاض عسير كاد أن يودي بحياة العملية السياسية برمتها عندما وطأ مواطنون بأرجلهم طاولات نواب البرلمان، وبعد أيام فعلوها مع طاولات وزراء الحكومة!
بعيداً عن نظرية المؤامرة؛ فان الوضع القائم في العراق غير طبيعي بالمرة، ولسان حال المواطن العراقي؛ اذا كان كل شيء يجري بانتظام، فما الفائدة من وجود الحكومة والبرلمان، وربما يقول البعض: لو كنا نعرف هذا المآل، لكنّا أقدمنا على التظاهر والاقتحام واستخدام لغة التهديد والوعيد منذ سنين، ولكانت الاوضاع افضل مما هي عليه اليوم، ولكانت مشاريع وأعمال انجزت وحصل الناس على بحبوحة من العيش اكثر.
وما يثير القلق حقاً في تزامن انطلاق العمليات العسكرية للقضاء على "داعش" في مناطق محافظة الانبار ومنها الفلوجة، مع تراجع حاد للعملية السياسية في بغداد، فمن يتخيّل قوة عسكرية تحقق انتصارات باهرة أمام عدو شرس مثل "داعش"، فيما ترى هذه القوة العسكرية أن خلفها حكومة وبرلمان في أزمة ثقة خانقة أمام الشعب؟ فمن الذي يدير الحرب ضد داعش ياترى...؟!
انه سؤال عفوي وبسيط ربما يدور في ذهن أي مواطن عراقي، بيد أن السؤال يتفرع من السؤال السابق هو الأهم؛ من الذي يدفع لخلق فجوات بين اركان الدولة الثلاث: الشعب والحكومة والقوات المسلحة ؟
واضحة هي الأيادي التي تسعى لإظهار الحكومة العراقية والعملية السياسية برمتها، عاجزة على أن تواجه الجماعات التفكيرية والارهابية وتنتصر في هذا التحدي، لان هنالك المليارات أنفقت لبقاء هذا التحدي قائماً بوجه العراق والعراقيين، وإن كان لابد من مواجهة الامر الواقع والتعامل مع المستجدات الدولية وتركيع "داعش" في العراق، بالتوافق مع السيناريو السوري، فان الاصرار ينصبّ هذه المرة على ألا يكون للقوات الظافرة والمنتصرة في الفلوجة حكومة قوية وبرلمان متماسك وثقة متبادلة بين الشعب ومؤسسات الدولة.
ولا أدل على استئجار السعودية هذه الايام لأقلام كتاب وآراء محللين عسكريين وسياسيين وصحفيين ومختلف وسائل الاعلام، فنقرأ تحليلات في (سي أن أن) مثلاً؛ "أن العراق ذاهب بلا رجعة"، وهي عبارة مشابهة لما قاله محلل اميركي في أعقاب احتلال الموصل من قبل "داعش"، بأن "العراق لن يعود الى ما قبل حزيران 2014".
أما اليوم فقد سقطت جميع المحاولات التي تعيق الجهد العسكري العراقي لاستعادة السيطرة على كامل الاراضي العراقية من احتلال "داعش"، كان أهمها؛ تقييد أجنحة القوة الجوية العراقية بحرمانها من "أف 16" ومروحيات قتالية متطورة، بيد أن مسار الاحداث واستحقاقات المرحلة الراهنة استوجب إنهاء وجود "داعش" في الفلوجة بعد انتهاء مدة صلاحيتها، وربما يأتي اليوم المحدد للموصل ايضاً.
بالرغم من وجود الهيكلية العامة للحكومة في بغداد ومؤسسات الدولة، فان جماهير الشعب والمؤسسات الثقافية والدينية المعنية والمؤثرة في الواقع الاجتماعي والسياسي مسؤولة عن إعادة اللحمة الى العلاقة بين الشعب العراقي ومؤسساته الرسمية بشكل عام، بشكل يظهر للعالم قدرة العراق حكومة وشعباً على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية في وقت واحد، وهذا يترك تأثيره على مكانة العراق اقليمياً ودولياً، ولعل هذا يُعد التحدي الأكبر لنا بعد "التحدي الأصغر" بأبادة عناصر "داعش" من العراق نهائياً.
اضف تعليق