لكلٍ منّا ظل يرافقه ليل نهار، قد لا يراه مطلقا، ولكنه لا يغيب عنه، يرافقه في السر والعلن، هذا يعني أن لكل إنسان صورة أخرى غير التي يراها الناس، وغير التي يراها هو نفسه، صورة الظل لا تشبه حقيقة الانسان، قد لا يراها ولكنها موجودة، يصفها بعض المتخصصين بعلم النفس والانسان، بأنها الوجه الآخر للإنسان، أو ظله المختلف عن الجوهر، هل نتحدث هنا عن ثنائية الشكل والجوهر، الظل والحقيقة.
ثمة جانبان لكل انسان، المظهر والجوهر، علما أن الموجودات كلها سواءً كانت حيّة أو جماد، لها شكل يميز بعضها عن الآخر، ولكن في حقيقة الامر، يبقى الجوهر هو الأكثر قدرة على منح الشيء - أي شيء- امتيازه الخاص الذي يرفع من شأنه وقيمته، ولكن ثمة مشكلة غالبا ما تتلبس منظومة العلاقات في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، تتعلق بتعامل الناس مع المظهر وإهمالهم لما هو أبعد من ذلك، أي اهمالهم لجوهر الانسان والتمسك بظله، بالصورة الكاذبة التي يظهر بها في المجتمع، وهذه الصورة الكاذبة هي الظل الذي يخفي فيه الانسان الحقائق التي يؤمن بها، ويُظهر للناس ظله المجامل وربما الكذاب والمحابي أيضا.
في الحركة التي يقوم بها الانسان داخل المجتمع، تحدث حالات كثيرة من تضارب الأهداف والارادات، وربما الأفكار والأقوال ايضا، بعضنا يرتدي ظله حتى لا يكون وجها لوجه أمام الناس، قد ينطوي الأمر على بعض الخشية والجبن، وربما تحاشيا للمواجهة، ولكن على العموم تبقى شخصية الظل حاضرة، تمثل المظهر، لذلك نحن في الواقع نعاني بوضوح من قضية المظهرية المزيفة، إننا نلاحظ بوضوح نوعا من المجاملات الفارغة للشكل على حساب المضمون والأفكار والسلوك، إنه مرض خطير ينخر مجتمعاتنا، ويبعدنا عن الحقائق كثيرا، ويشيع في اوساطنا العملية وأنشطتنا المتنوعة، نمطا من الزيف المقنّع، وهو أمر يجعلنا نجامل البعض على حساب الحقيقة، الامر الذي يجعل منا مجتمعا يمنح الشكل المزيف (الظل) اهتماما لا يستحقه، فيما يتم من جانب آخر، إهمال الجوهر بطريقة خرقاء لا تدل على الذكاء في التعامل، بقدر ما تدل على مداراة المصالح الفردية بالدرجة الاولى، لهذا غالبا ما يُطرَح التساؤل التالي، متى ينتصر الانسان على ظله، او شخصيته الأخرى، ثم هل توجد فعلا شخصية اخرى لكل منّا؟.
تغيير السلطة الأبوية
في المجتمعات التي تقوم على الكبت العائلي والسياسي، ينشأ انسان ذا وجهين، أو شخصيتين، الظل والحقيقة، الأول يماشي فيه الناس، والثاني هو الوجه الحقيقي، ولكنه لا يسمح له بالظهور بسبب الاكراه السلطوي (الأب، الحاكم، رب العمل الدكتاتوري ووو)، وهذا قد يقود الى الاهتمام بإنسان لا يستحق ذلك، أي أنك قد تهتم بشكل الانسان مع معرفتك المسبقة، أنه فارغ من العلم والفكر الجيد والرأي السديد، بل انه ربما يكون فارغا من الانسانية، ومع ذلك قد ينحو البعض الى مجاملة الشكل المقنّع أو المزيف، والسبب أما نوع من المجاملة للحفاظ على المصالح، أو نوع من الجبن والخوف، وفي جميع الاحوال تبقى شخصية الظل، هي التي تقف وراء مثل هذا التواطؤ السلبي مع الزيف على حساب الجوهر.
من هنا مطلوب حملة جماعية لوأد الظل، او الشخصية الكاذبة التي ترافق الانسان، وعليه أن يظهر دائما بشخصية الجوهر الحقيقي له، لأن الخوف هو الذي يساعد على ولادة الظل، او الشخصية المزدوجة، فقد يقول الانسان شيئا ويؤمن بشيء آخر تحت القوة والسلطة والمصلحة والمحاباة وما شابه من أسباب، وهكذا قد يساعد الانسان نفسه والمجتمع عموما، على نمو المظهرية المزيفة، ويمنحها زخما في التحكم بمعظم الانشطة العملية التي تربط بين أبناء ومكونات المجتمع الواحد، فتغدو شخصية الظل هي البديل الدائم للشخصية الأصل، وتنوب عن حقيقة الافراد في علاقاتهم المتنوعة، فتدخل ضمن منظومة السلوك المجتمعي، وهنا تكمن الخطورة الكبيرة، إذ تصبح مثل هذه العادات المسيئة مقبولة من لدن الفرد والمجتمع، على الرغم من انها تدمر العلاقات السليمة كونها تقوم على المجاملة الكاذبة، وعلى التملق أحيانا وقد تكون الكثير من المجاملات غير صحيحة، وبهذا يسود نوع من التعاملات الفردية والجماعية كلها يقوم على الزيف والخداع، ويعتمد المظهر الخارجي او ما يمكن أن نطلق عليه بشخصية الظل التي تحل محل الشخصية الأساسية لأسباب تم ذكرها فيما سبق.
البحث عن حقيقة الانسان
إننا في الحقيقة، نحتاج الى التعامل الحقيقي بوجه واحد، علينا أن نتعاون كي نرفض الشخصية المزدوجة، وعلينا أن نقتل شخصية الظل في أعماقنا، إنها من صناعة الخوف والتسلط الأبوي او السياسي، نحن نريد أن نتعامل مع بعضنا بشخصية الحقيقة، شخصية الجوهر، تلك التي لا تعرف الكذب والرياء من أجل مصلحة ما، بطبيعة الحال يتعلق بمنظومة التربية العائلية والأسرية السائدة في المجتمع، لذا علينا أن نشجع الجوهر، ونبتعد عن الظل او المظهر، كمثال عن ذلك، هناك أناس نقابلهم في حياتنا اليومية العملية وسواها، يرتدون الملابس الفاخرة ويتعطرون بعطور فاخرة، ويظهرون بحلة جميلة تنم عن الترف والذوق، ولكن هذا ما يظهر منهم على الملأ، بمعنى هذا هو شكلهم الخارجي، ويبقى الاهم جوهرهم، فهل هؤلاء يحملون فكرا انسانيا راقيا، وهل يتعاملون مع الاخرين وفق رؤية انسانية لا تقوم على الاستخفاف او الاستصغار او التعصّب، علينا العمل معا على صناعة شخصية حقيقية لا تحتاج الى شخصية الظل، لأن الأخيرة هي التي تفسد علينا حياتنا؟!.
لذا من الأمور المتعارف عليها أن الجوهر الحقيقي السليم للانسان، يتمثل بما يمتلكه من خزين انساني راق في التعامل مع الآخرين، ليس في مجال الكلام او اللفظ المجرد فحسب، وليس في تبادل الآراء والحوارات فقط، إنما يتشكل جوهر الانسان ويظهر في جميع الانشطة التي يقوم فيها بالتعاون والتشارك، بما في ذلك تعامله الربحي والعملي والاخلاقي مع الناس، وبما يؤكد أو ينفي انسانيه والتزامه بحقوق الاخرين والحفاظ عليها، تماما مثلما يحافظ على حقوقه ومصالحه الخاصة.
لذلك لا ينبغي أن يسمح المجتمع وأعضاؤه ومكوناته، بانتشار شخصية الظل او الوجه الآخر للانسان او الشخصية المزدوجة، وهذا سوف يساعدنا على تقديم الاحترام للشخص على اساس جوهره وحقيقته، وليس على أساس شكله وما يلبسه من ملابس فاخرة وما يتعطّر به من عطور مستوردة!، تسبغ عليه مظاهر الترف والبذخ والجاه او سواه، إننا مطالبون بوأد الشخصية المزدوجة، ولابد من القضاء على شخصية الظل، وهذا يستدعي عملا جماعيا مدروسا ومنظما ومستمرا وقائما على التخطيط والصبر والمطاولة في التنفيذ.
على أن يبدأ ذلك من البيت، الأسرة، ثم المدرسة، فمحيط العمل، وبهذه الطريقة التي ينبغي أن تشكل سلوكا جماعيا لنا، يمكن أن نحد من نمو وانتشار المجامل الكاذبة واعلان ما لا نؤمن به، والتستر على قناعتنا من لأسباب لا تستحق ذلك، ولابد أن يعمل الجميع على تنبيه اولئك الذين يتصورون أن المظهرية المزيفة هي التي تمنحهم الاحترام والتميّز وما شابه من صفات قيّمة، وفي كل الاحوال علينا أن نعمل معا على التخلص من شخصية الظل التي تعيق شخصية الجوهر عن اداء دورها الحقيقي والسليم في المجتمع.
اضف تعليق