q

من العلامات التي تشهد على مدنية الشعب والدولة، تفضيلهما للحوار الحضاري على سواه، مع قدرة القادة السياسيين على تجنب الاحتقان، وتحويله من مساره العنيف الى مسار الحكمة والتوازن، وقد وعت الدول والمجتمعات المتقدمة هذه الميزة المهمة، ولجأت إليها العقول السياسية المتميزة في الغرب والشرق، كي تتجنب ويلات الحروب بعد أن ذاقت ويلاتها في العقود التي مضت، لاسيما ما أطلق عليهما بالحرب العالمية الأولى والثانية.

فقد تعلمت البشرية درسا لا ينسى من هاتين الحربين، ليس فقط في مجال العلاقات السياسية بين الدول والشعوب، وإنما استثمرت الحوار المدني المتحضر في داخل مكونات الشعب والمجتمع نفسه، فقد تم مغادرة اسلوب التشنج والتصادم الى غير رجعة، وصار الحور عنوانا للتحضّر والتطور المدني، وهو البديل الأفضل لأي نوع من انواع النزاع والصدام.

لهذا يُنظر الى الحوارات التي تدور بين الاطراف السياسية في العراق بنوع من القلق المشوب بالرضا، فهذه الحوارات وإن كانت متشنجة وتنطوي على تناقضات ظاهرية، تصل احيانا الى حد القطيعة، وتدخل فيها الضغائن العرقية وما شابه، ولكن على العموم تعلم العراقيون خلال اكثر من عشر سنوات بعد التغيير على أن الحوار كمنهج مدني بديل للحرب وخسائرها الفادحة، ولكن نحتاج الى يكون اكثر مدنية واستقرارا.

دروس كثيرة ينبغي أن نتعلمها لاسيما في مجال درء خطر الاقتتال، وتقريب الحوار كمنهج حضاري مدني لا مجال للتنكر له، فالبشرية عبر رحلتها الطويلة والشاقة، تعلّمت الدرس جيدا ونحن جزء منها، وفهمت البشرية عموما وآمنت بأن الصراع والاقتتال والتصادم، ظواهر بائسة متخلفة، أكل عليها الدهر وشرب، وهي طرق موغلة في الغباء، حيث تنتهي بالجميع الى الخسارة الفادحة، وتترك الدمار والتخلف علامات دالة على انتصار الجهل والتعصّب، وغياب الحكمة، وإهمال الحوار المتوازن بين الأطراف المختلفة، وهو القيمة الاساسية التي يمكن من خلالها، أن يحافظ الانسان على قيمته وحقوقه المدنية المتوازنة، فردا كان او مجتمعا، شريطة أن تتوافر ارادة قوية ذكية ومستقلة، تدير الحوار بحضارة تامة بينها وبين الآخر، ولعل ما حدث مؤخرا من أشكال متعدد للحوار والتصلب في المواقف على الرغم من بعض الاخطاء إلا أنه أفضل من الوصول الى درجة الاقتتال وتحويل الحوار الحضاري المدني الى صراع متخلف..

لا يمكن للقوة أن تكون البديل

بعض الفلاسفة ذهب الى القوة لتحقيق الحلول التي يمكن أن تقود الى بناء الدولة القوية، وأصحاب مثل هذه الرؤى والافكار نادوا بصوت عال الى أهمية اعتماد القوة وفرض الأمر الواقع على الآخر، كما هو الحال مع سياسية (اسرائيل) منذ اكثر من نصف قرن، وهي تعتقد أنها قادرة على فرض الامر الواقع على المسلمين والعرب، ولكن هذا المنهج أثبت فشله، مع بروز العديد من اشكال ومظاهر المقاومة الشديدة المتجددة، وهذا ينطبق أيضا على واقع الدولة، أية دولة كانت، في العلاقات الداخلية والخارجية معا.

ينبغي تجنب اسلوب فرض الارادة، كونه اصبح من مؤشرات العالم الماضي، فهذه سياسة باتت قديمة ومكشوفة ولا تتسق مع المنهج المدني المتحضر الحديث الذي تسعى دول العالم ومجتمعاته المتطورة الى تثبيت اركانه، بين مكونات المعمورة اجمع، وتجعل منه المنهج الأكثر حضورا في العلاقات الدولية، فضلا عن تطوريه وتكريسه في العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد، بعض الفلاسفة نادوا في افكارهم بالقوة وقدرتها على حسم الامور، ولكن قد يصح هذا في ظرف معين ومحدد وطارئ.

أي أنه لا يمكن أن يكون منهجا تعتمده الدول لتحقيق التوازن الخارجي والداخلي، على الرغم من أن بعض الافكار القائمة على التطرف، قد ارتكزت على اسلوب فرض الارادة والرأي بالقوة، وذهب بعضهم الى أن الوسيلة الوحيدة التي تحفظ كيان الانسان والمجتمع، هي استخدام القوة ضد الآخرين، واذلالهم، واجبارهم على الخضوع بالقوة، وقد قدم لنا التاريخ دروسا بالغة الاهمية في هذا المجال، واثبت معظم الوقائع الكبرى في هذا المجال، بأن القوة مهما عظمت، ستبقى في طريقها الى الضعف والاضمحلال والزوال، فكثير من الامم القوية التي فرضت هيمنتها على العالم اجمع، انطفأ حضورها مع الزمن، وماتت حضارتها، بسبب القوة المفرطة وضعف الحوار واهماله تحت وطأة الغرور والطيش والشعور بالعظمة، وبقيت الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها بحق الانسانية علامات ومؤشرات ادانة لها وليس لصالحها.

وهكذا اصبح تكريس المنهج المدني الحضاري غاية مهمة للمجتمعات المتطورة، وينبغي أن يكون ساستنا على ايمان تام بهذا المنهج، على أن تبقى قاعة البرلمان بوصفها رمز دستوري المكان والفضاء الحاضن للحوار (المختلف) بكل ما تعنيه هذه المفردة، أي يكون البرلمان مساحة لحوار الآراء التي لا تشبه بعضها بعضا، لاسيما أن الانسان قد تعلم درسا مهما من حروبه الكثيرة التي خاضها ضد نفسه، ومن صراعاته الساخنة والباردة حول فرض الارادات، فعرف أن الحوار هو الوسيلة النبيلة التي يمكنها ان تحقق للجميع كرامتهم واهدافهم وتحمي حقوقهم، وتمنحهم الفرصة الكافية لتكريس المنهج المدني كأسلوب لادارة العلاقات الخارجية والداخلية بعيدا عن التصادم الحاد، وبعيدا عن كل أساليب القوة والاقتتال واثارة الفتن والصراعات، وهي جميعا مظاهر بائسة لا تقود أحد الى نتائج طيبة بما في ذلك الطرف الذي يظن أنه حقق انتصارا ما.

هل نحن نحترم أهمية الحوار؟

هل نحن نحترم الحوار الحضاري؟ سؤال مهم ينبغي أن يجيب عنه كل من يتصدى للعمل السياسي القيادي، بل هو مهم في مجالات العمل الانساني، في الدوائر والمؤسسات والجامعات والمدارس والمنشآت الخدمية والانتاجية وفي كل مكان فيه ادارة ورئيس ومرؤوس، هؤلاء جميعا ينبغي أن يتقنوا بدراسة وايمان أهمية الحوار، وعليهم جميعا أن يسهموا في تطوير منهج مدني للعلاقات المتبادلة في محيط حركة الناس أينما كانت، ومهما كان نوعها.

السؤال ماذا نلاحظ في هذا الشأن؟ هل نحن نمضي نحو تكريس المنهج المدني؟ ان مجتمعاتنا العربية والاسلامية تضعف فيها قيمة الحوار بعض الشيء، وتنظر للحوار على انه تعبير عن حالة ضعف وتراجع، في حين ترى المجتمعات المتطورة ان تحقيق الاهداف الصعبة بالحوار هو الطريقة الافضل، أما بلوغ مرحلة الحرب والاقتتال، فهو دليل على فشل المتحاورين في الاستخدام الجيد لقيمة الحوار، وغالبا ما تعود اسباب فشل الحوار، الى منهج فرض الارادات، وهو اسلوب لا يعبر عن وعي انساني، لانه ينتمي الى نوع من الغطرسة لم تعد روح العصر تتماشى معها او تنسجم معها، فاليوم بات المنهج المدني هو الذي يحكم العلاقات الناجحة بين البلدان خارجيا، ويمنحها سمة النجاح في علاقات المجتمع الداخلية.

مطلوب من جميع الجهات المعنية ان تكرس المنهج المتمدن الحضاري، عبر خطوات المهمة ينبغي القيام بها، والتشجيع عليها، ومبادرة الجهات المعنية في مجتمعاتنا، ونعني بها الجهات والمنظمات الرسمية والاهلية، الى زرع روح الحوار في نفوس الناس منذ بدايات النشوء، بمعنى من الافضل أن تنمو شخصية الطفل وتتشكل فيها منظومة قيم مجتمعية، من بينها اللجوء الى الحوار مع الاقران والوسط الذي يتحرك فيه الانسان، لحل المشكلات التي قد تظهر هنا او هناك، والابتعاد عن الصراع، واللجوء الى لغة هادئة واضحة يؤطرها الذوق والحس الانساني، وصولا الى نوع من الحوار الضامن لحقوق الجميع، وليس هناك اسلوب قادر على الوصول الى حالة التوازن القصوى أفضل من اسلوب المنهج المتمدن الحضاري القائم على الاحترام المتبادل والتعايش وتشجيع المجتمع على التعاون البنّاء.

اضف تعليق