يقع الكثيرون في حيرة شديدة الوطأة حين يتابعون ما يحدث في العراق منذ ثلاثة عشر عاما وحتى الان، فهو في الكثير منه يخضع للتفسيرات الجاهزة والمعلبة التي تسمعها في كل مكان وزمان وعلى الكثير من الالسنة.. لان تلك التفسيرات تصلح لجميع الحالات، كالأعشاب في دكان العطار، ولأنها لا تستدعي بذل مجهودات زائدة من مليارات الخلايا المخية، التي لو شغل الانسان مقدار عشرة بالمائة منها لحدثت المعجزات كما يؤكد ذلك الممثل الامريكي مورغان فريمان في فيلم الخيال العلمي (lucy).
الخيار العقلاني احدى النظريات السياسية التي يمكن ان تفسر الكثير من سلوك السياسيين العراقيين بعد العام 2003، والتي يمكن ان تبعد الكثير من علامات التعجب التي تنتابنا نتيجة لهذا السلوك.
عرف تيار الخيار العقلاني في حقل العلوم السياسية الامريكية، انفجارا فعليا بعد السبعينات. من الناحية العملية، كان هذا التيار معدوما في الخمسينات، وفي التسعينات شكل ما نسبته أربعون بالمائة من إصدارات المجلات الكبرى في العلوم السياسية.
ماذا يعني ذلك على وجه التحديد؟
يشير الخيار العقلاني الى نمط تحليل السلوكيات الفردية وللحياة في المجتمع، وهو يستند الى مبدأين اثنين:
• الفرد هو فاعل عقلاني، أي انه حاسب ماهر يسعى لرفع مصالحه الى الحد الأقصى.
• والحياة في المجتمع لن تكون الا جملة هذه الأفعال الفردية (خلافا لرؤية أخرى تنظر الى المجتمع من خلال الثقافة والطبقات والأعراف وغير ذلك)..
انبثق هذا التيار من الاقتصاد الدقيق، حيث نجد صورة نظرية معيارية يصار بموجبها الى تحليل سلوك المستهلك.. ويعود الفضل في نقل نظرية الخيار العقلاني من حقل الاقتصاد الى المجال السياسي العام لعالم الاقتصاد الأمريكي كينيث آروي (الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1972 )..
أتاح نموذج التحليل الذي ادخله كينيث آروي تطبيق أدوات الاقتصاد الدقيق الرياضية على المجال السياسي: نظرية الألعاب، النظرية الرياضية في اتخاذ القرار.. بتطبيق هذا النموذج على الحياة السياسية نجد ان المنتخبين هم افراد شأن الاخرين، لايقوم سلوكهم على البحث عن المصلحة العامة، بل على الدفاع عن مصالحهم الخاصة.
اما جيمس بوخنام الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1986 فيعتبر مؤسس الخيار العام، وهو طريقة تحليل تطبق فيها مباديء الخيار العقلاني على الحياة السياسية.
ينتقد بوخنام ، سراب دولة ينظر اليها بوصفها هيئة عليا تدافع عن المصلحة العامة. فالدولة هي قبل أي شيء اخر أداة توضع بين ايدي منتخبين وموظفين، او افراد عقلانيين يسعون لرفع مصالحهم الى الحد الأقصى، ومن هذا المنظور يسعى المنتخب الى تامين إعادة انتخابه ثانية.
يتصرف الناخب كما لو كان مستهلك منافع.. ولهذه النظرة الكلية التي تعتبر السياسة سوقا سوف يتم فيه تبادل كل شيء، نتائج مهمة اثرت على النظرة الى الخيارات العامة.
على سبيل المثال، وعشية الانتخابات، يجد رجال السياسة مصلحة لهم في توزيع المغانم على ناخبيهم، والى اطلاق اعمال عامة.. ويعمد بعض الناخبين الى المجاملة، اذ باستطاعتهم دفع الأكثرية الى هذا الاتجاه او الى الاتجاه الاخر.
كذلك تم تصوير نموذج الخيار العقلاني في الاقتصاد الدقيق الى مجالات أخرى، بعدما كان ذلك حكرا على علماء الاجتماع: العمل الجماعي (مفارقة اولسون)، الاسرة او التربية (نظرية الراسمال البشري عند تيودور شولتز ).. نجد صياغات مختلفة تناولت الخيار العقلاني.
من منظور دقيق، الصيغة المرتبطة بالإنسان الاقتصادي، حيث يعتبر الفرد انانيا، ماديا ونفعيا. مايسعى للحصول عليه ليس سوى المال، والسلطة والحظوة لنفسه. اما وبحسب صيغة اكثر توسعا، فان مسلمة عقلانية السلوكات لاتنطوي على شيء يتعلق بغائيات العمل. بعبارات أخرى، اذا قبلنا بكل بساطة ان الفرد يمارس خيارا برهانيا ليصل الى أهدافه، وان يكون محبا للغير، روحانيا، او ماديا، فان الانتحاري والصوفي والمحارب جميعهم عقلانيون بمجرد تصرفهم بتماسك من اجل تحقيق أهدافهم.
تبدو هذه النظرة الواسعة المسلمة للعقلانية اكثر معقولية من النظرة النفعية او الانانية الصرف. الا انها تشكل غرض نقد لا يمكننا الا تسجيله: ان التصور الواسع للخيار العقلاني هو تصور يشرح كل شيء، لكن ليس له قيمة اقصائية. فاذا كان المبدأ الشرحي عينه يمكن ان يطبق من اجل الالمام بسلوكين متعارضين (يقوم الانسان بخيار عقلاني حين يقدم ماله للفقراء او حين يمتنع عن القيام بذلك) في هذه الحالة يكتسب النموذج مشروعية شاملة لكنه يفقد قدرته الاسنادية كلها.
اثارت نظرية الخيار العقلاني العديد من أنماط النقد. فقد أشار بعضهم الى عدم واقعية هذا النموذج. اذ رفض المنتقدون اعتبار الفرد كائنا عقلانيا من دون اخذ القيم بعين الاعتبار، وكذلك العادات والسياق الاجتماعي، وكل ما يؤمّن بنية سلوكه. اما الذين ايدوا الخيار العقلاني فقد قدموا نظريتهم باعتبارها واقعية جدا، فرجال السياسة برايهم والناخبون والمنحرفون انما يلجؤون باستمرار الى حسابات تتناول الخيار الاستراتيجي والتكتيكي الذي عليهم القيام به بهدف تحقيق أهدافهم.
اضف تعليق